مرزوق بن تنباك

الجور على مصطلح النقد

الثلاثاء - 20 ديسمبر 2022

Tue - 20 Dec 2022

قد يجور على المصطلح معنى يحمله ظاهره فيجمده في أذهان الناس ويحدد معناه ويضيق المساحة التي كان يحتلها عندما وضع واستعمل في ماضيه، وفي حال وضعه الأول إلى معنى جامد ترسب في مفهوم الناس وأصبحت دلالته محصورة في الظاهر بعيدا عما وضع له في الابتداء.

من تلك المصطلحات التي جار عليها الاستعمال في الماضي القريب النقد، حيث أصبح يعني في مساحة الاستعمال، العيب والبحث عن النقائص في الكلام أو العمل النظري والسلوك والتقويم، فلا يكاد أحد يسمع كلمة نقد حتى يتبادر فهمه إلى العيب والنقيصة.

وليس الأمر كذلك إذ المقصود في النقد عند وضعه إبراز الأصيل من الزائف وإظهاره وتوضيح قيمته وما تحتوي عليه من مادة صالحة للاستعمال أو بيان ما يعتري العمل من نقص.

وكان يقصد به ابتداء تمييز (المعادن بعضها عن بعض، كالذهب والفضة والنحاس) ومعرفة صفائها ووزنها الحقيقي وقيمتها في السوق، ثم امتد استعمال المصطلح للعلوم الإنسانية والنظرية وخصوصا الأدب بجنسيه الشعر والنثر حتى أصبح من يشتغل في هذه العلوم ويميز جيدها عن غيره يسمى ناقدا، فالناقد هنا يعني المميز للعمل الذي يظهر محاسنه ويبين فضائله ويدعو إليه ويشير إلى عثراته ونقصه إن وجد.

ولأن وزارة التعليم قررت أخيرا تدريس مادة جديدة في المدارس العامة بعنوان التفكير الناقد أي المبين لمحاسن العمل والمشجع على التفكير الإيجابي أحببت بيان معنى النقد وفائدته وألا يفهم بالمعنى السلبي الذي قد رسخ في أذهان الناس عند استعمال المصطلح دون تحديد للمراد منه.

فالتفكير الناقد هو تمييز الأشياء وبيان بعضها عن بعض وليس البحث عن السلبيات، وقرار الوزارة قرار موفق وقد جاء متـأخرا سنوات طويلة قطعها التعليم لدينا وهو مغلق عن التفكير أو النقد والتحليل، ومحرم عليه النظر خارج النص الذي يوضع أمام الطلاب ويطلب منهم حفظه وترديده، دون النظر فيما وراء النص من المعاني والدلالات المعرفية، كما منع تدريس الفلسفة والمنطق وما شابه ذلك من العلوم التي تحتاج إلى إعمال العقل والنظر فيما يطرح للمناقشة وما يثار حوله الجدل في الفكر، والعودة محمودة لتعليم المنطق وفلسفة العلوم وتحرير العقول من القوالب الجاهزة وإعطاء الطالب فرصة إعمال التفكير فيما يقرأ من النصوص، وما يعرض عليه من المعارف العامة والخاصة وتدريبه على الاستشكال الناقد الذي يميز بين المسلمات والمأثورات إذ هناك فرق كبير وبون شاسع بينهما.

كان عدم تدريس الفلسفة والنقد وعلم المنطق خطأ أصاب التعليم ومنع القدرة لدى الطلاب من الإبداع مع أن هذه العلوم هي التي أجادها المسلمون الأولون وقاموا بتدريسها والاعتماد عليها في تحرير كثير من الموضوعات التي عرضت لهم عندما اتصلوا بالحضارات والثقافات الأخرى، اعتمد العلماء المسلمون على النقد المعرفي والحجاج الإيجابي والجدل عن معارفهم وثقافتهم وحتى عن دينهم ومعتقداتهم، ولهم في ذلك مطولات وصولات وجولات فندوا فيها ما واجه الثقافة العربية الإسلامية من تحد كان لابد منه عندما اتصلت الثقافات القديمة المختلفة بثقافتهم العربية والإسلامية.

وليس هناك مبرر لحجب العلوم الإسلامية العربية النافعة عن التعليم إلا الرؤية القاصرة والضعف الذي صاحب البدايات الأولى للتعليم العام، وعدم قدرة ذلك الجيل على التخصص في العلوم الإسلامية ذات البعد الفلسفي الذي ما كانوا يحسنونه ولا يحبذونه فوجدوا السلامة بحجبه ومنعه، وهم قادرون على المنع والحجب ففعلوا الذي يستطيعون ويقدرون عليه.

Mtenback@