ريما رباح

الصين.. مصالحنا أولا!

السبت - 10 ديسمبر 2022

Sat - 10 Dec 2022

‏في وقت حساس يضج فيه العالم بتحولات ومنعطفات كبرى، تبرز رياض العز في فضاءات التاريخ لترسم علامة فارقة في الريادة، فالقمة الصينية السعودية تتكون من ثلاث قمم (قمة سعودية-صينية، وقمة خليجية-صينية، وقمة عربية-صينية)، وشهدت توقيع اتفاقيات تتجاوز قيمتها 110 مليارات ريال، وبحضور أكثر من 30 رئيسا خليجيا وعربيا لتدعيم التعاون في قطاع النفط والغاز الطبيعي، وقد تمتد إلى استكشاف المجالات الناشئة كالطاقة النووية والطاقة الجديدة، ونقاش القضايا العالمية كأزمة الغذاء والطاقة وتغير المناخ. وقد يتساءل البعض: لماذا الصين الآن؟

‏منذ ألفي عام، ربطت طريق الحرير البري والبحري بين الحضارتين العربية والصينية، والرياض هي ملتقى الشرق والغرب، مما يؤهلها لبلوغ أهدافها الطموحة، حيث انتهجت مسارا حداثيا جديدا خارطته مليئة بمحطات استراتيجية، لتقليل الاعتماد على النفط وتحويل المملكة إلى قوة صناعية رائدة، ومركز تجاري ولوجستي عالمي، فسعت إلى تقوية الروابط مع الصين في شتى المجالات في سبيل تدعيم موقعها في التجارة الدولية، ولبناء صناعة بحرية تنافسية إقليمية ومستدامة، وهذا التوجه في حد ذاته يعيد إحياء روح التاريخ ويتماهى تماما مع طريق الحرير البحري الصيني للقرن الحادي والعشرين، ويشكل تآزرا وتكاملا بين كل من (رؤية 2030) السعودية و(مبادرة الحزام والطريق) الصينية.

‏بعدما كانت قائدة العالم القديم لزمن ليس بالقصير، غدت الولايات المتحدة الأمريكية في خانة الخسارة المستمرة، بسبب تعنتها وامتناعها عن الاعتراف بالتحديثات والتحديات المستجدة، والإصرار على منع ومحاولة إيقاف القوى الصاعدة من حيازة أي امتيازات غافلة أو متغافلة عن أن التغير سنة كونية - مما ولد كثيرا من الشعور بالغبن والحنق لدى كثير من دول كوكب الأرض، وهذا ما دعا كثيرا من المراقبين للتساؤل عما إذا كانت (معضلة النظام العالمي) هي الولايات المتحدة ذاتها!.

وحين أصبح المشهد الاستراتيجي الإقليمي زئبقيا، ارتأت المملكة كتابة التاريخ الجديد عبر منظور التكاملية، ومن هنا استثمرت في العلاقات الدولية المتعددة، وأخذت زمام المبادرة للاستفادة من نمو الصين وقدراتها السوقية والاستثمارية الضخمة في إطار المصالح المتبادلة والطبيعة الجيوسياسية، (وهذه كانت الضفة الأولى، فماذا عن الثانية؟).

الصين كقوة عظمى صاعدة تستنكف توجه الغرب القائل بـ(نظرية فراغ السلطة في الشرق الأوسط)، وتجزم بكونه ادعاء باطلا، وتؤكد أن دول الشرق الأوسط هم أصحاب المكانة والسيادة في صناعة مستقبل ومصير المنطقة - حكما، وهي تعطي الأولوية لبناء الثقة الاستراتيجية المتبادلة مع دول المنطقة، كما في التقرير المطول الأخير لوزارة الخارجية الصينية، فهذه هي البوصلة المستقبلية المعتمدة للتعاون الصيني العربي في العصر الحديث.

و‏النظام السياسي العالمي القائم مدعوم بحزم من المعاهدات القائمة لصالح الغرب، لكن الصين أصبحت تلعب دورا متعاظما في سباق التسلح والموقع والنفوذ، الأمر الذي يراه الغرب تهديدا لمصالحه، ولهذا فإنه يقوم ـ ومنذ زمن غير قصير وبشكل مستتر ـ بمحاولة صد تقدم هذا الصعود خشية تآكل نصيبه إذا تم للصين الانفتاح الواسع على العالم وقد صار أكثر صراحة في إظهار العداء، (فماذا تغير اليوم؟).

‏الصين أنشأت القواعد الجديدة للهيمنة العالمية، أولا: هي تتبنى مفهوم السيادة الإقليمية كنقطة انطلاق كلاعب وشريك محوري مع الدول، بإنشاء تحالفات جديدة في المجالات الأمنية والاقتصادية، مما سيضعف التحالفات العالمية القديمة. أما ثانيا: فهي تتصالح مع المنظومة التاريخية والجغرافية للاستراتيجية الجيوسياسية، بدلا من منهج القوى القديمة القائم على فرض الإملاءات العالمية الذي ولى زمنه.

وثالثا: العولمة المعاصرة تمتاز بتدفقات تجارية واستثمارية ضخمة بين الاقتصادات الرئيسة، والصين هي عقدة التصنيع الوسيطة للاقتصاد العالمي بأكمله. (فماذا عن علاقاتها بالمملكة؟)

‏التبادل التجاري الثنائي ذو حجم ضخم ومتسارع في التزايد، فالمملكة هي أكبر شريك تجاري للصين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما أن الصين هي أكبر عملاء المملكة للنفط الخام وأكبر شريك تجاري في صناعة الكيماويات.

جدير بالذكر أن قيمة مشاريع العقود المنجزة من الشركات الصينية في المملكة بين عامي 2014 و2019 بلغت 40 مليار دولار، وهو ضعف نظيرتها الزمنية للسنوات الخمس السابقة، وفي 2019 تنامت قيمة عقودها إلى 11 مليار دولار بما يعادل نسبة 70% في قطاعات شتى كالبناء والطاقة والمواد الكيميائية، وذلك وفقا لمركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية (كابسارك).

‏في الأفق الجديد، تظهر المملكة للعالم أجمع شخصيتها القيادية الحديثة بشكل مضطرد، وتأبى اللعب وفقا للقواعد التي وضعتها أمريكا منذ عقود، فترفض التدخل الخارجي وجميع أشكال الهيمنة وسياسة القوة، التي تعودها القادة القدماء خلال فرض شروط جيوسياسية إضافية على كل تعاون مع الدول العربية خاصة. كما أن القاصي والداني يعلم تمحور رؤية المملكة حول تنويع الاقتصاد، بتقليل الاعتماد على النفط وتحويل المملكة إلى قوة صناعية رائدة ومركز تجاري ولوجستي عالمي، (فما المبتغى من القمة والمرتجى؟).

‏التحالف الاستراتيجي السعودي الصيني قد يتضمن ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ وضع إطار عمل لاتفاقية الشراكة للتعاون على نطاق أوسع مع ثاني اقتصاد في العالم، ومن الأمثلة وضع معايير موحدة لضمان الاستدامة البيئية وضبط الانبعاثات الكربونية، وتعزيز الجهود الهادفة لتقليل المخاطر في سلاسل التوريد العالمية.

ومن ناحية أخرى، المعروف أن الرياض وقعت مع بكين مؤخرا مذكرة تفاهم في تقنيات الفضاء المبتكرة والأقمار الصناعية والذكاء الاصطناعي، ومنتجات التكنولوجيا الجغرافية المكانية التي تدعم صناعة الفضاء الاستراتيجية السعودية، ولكن هل انتهت القصة؟ لا وكلا، فالرياض المحلقة وبثقة في سماء الطموحات الجبارة ترتسم لذاتها مسلكا جويا استثنائيا، برفع مظلة التكامل الاستراتيجي الأمثل لتعجيل رحلة الارتقاء إلى المستقبل، باتت هي أيقونة الطبيعة إلى أفلاك (ما- فوق- التنميـة)!

‏تلك السفينة أبحرت، ويجب على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين تكييف استراتيجياتهم، إذا ما أرادوا البقاء على متن رقعة اللعبة، بعد أن تغيرت المعادلة.

فاليوم، المهم ليس كيف يرى العالم المملكة؟ ولكن الأهم هو (كيف ترى المملكة العالم؟)!. (فهل سيكون النظام العالمي الجديد أكثر سعودية)؟ الجواب، نعم، (المملكة تسبق التاريخ)!.

@RimaRabah