عبدالحليم البراك

كيف يستهلكنا ما نستهلكه!

الاثنين - 05 ديسمبر 2022

Mon - 05 Dec 2022

ببساطة شديدة، يمكن أن يستهلكك كل شيء حولك، ويبدو شعورنا أنه لا تستهلكنا إلا الأشياء المفيدة، الأشياء السعيدة التي تجعلنا نبدو سعداء بحجم الانشغال فيها، والجهد المبذول فيها، والعوائد التي تحصل عليها مقابل هذا الاستهلاك الذي يكاد يقضي على يومنا، ووقتنا، ومع هذا كله فنحن راضون كل الرضا عن هذه المقدمة، مما يعني؛ عندما نمضي وقتا مع أطفالنا، يستهلكنا الوقت وتستهلكنا العناية بهم، نبدو بغاية السعادة ونحن إليهم أقرب، بل عندما تمضي أعمارنا ونحن نشعر بأن وقتنا كله كان لأسرتنا وأطفالنا نبدو في غاية السعادة؛ لأنه لم يذهب بعيدا عنا.وكذلك عندما نتعب في أداء الرياضة فإن العوائد ترجع إلينا مضاعفة، وبرغم الألم من الرياضة والجهد الكبير، لكن هذا الاستهلاك يعود علينا بمضاعفة شعور الصحة والعافية، ومثله الرجل المنغمس بأعماله اليومية والتجارة فإنه بقدر ما ينغمس فيها بقدر ما يحقق نجاحا وعملا ومالا، وبقدر ما يتخلى عن هذا التعب مقدار ما يعود إليه الكسل بضياع الفرص المالية التي لا تتكرر، والموظف الذي يبلي بلاء حسنا في الوظيفة هو الآخر يمضي وقته فيما يستهلكه لكنه الاستهلاك الإيجابي.

وعلى الطرف الآخر والنقيض تماما، إذ إن ثمة أشياء أخرى تستهلكنا لكنها ليس لها قيمة ولا عوائد مباشرة، ولا حتى المتعة جزء منها أحيانا، وبرغم أن المتعة يعتبرها بعض الناس جزءا من عوائد الحياة التي يجب أن تستهدفها، إلا أن بعض ما يستهلك ولا حتى ينتمي للمتعة، ما تضييع الوقت في الاستراحات للرجال، والمقاهي والمولات للسيدات، وتلك الجهود الاجتماعية التي لا تولد إلا مزيدا من الدعة والكسل إلا نموذجا لتلك الأعمال التي تستهلكك وتسهلك جهدك وعلاقاتك وروحك وأنت لا تعلم إلى أي طريق منحدرة أنت متجه إليها، وهذا الوقت الذي أمضيته لو استثمرته بشيء آخر لربما نتج عنه عالم آخر مختلف، لكن ما يحدث هو أن ضياع ليلة واحدة لا ترضى عنها ولا تقدم لك الرضا الكامل ومع هذا تفسد لك ليلتك، وتتسلل إلى صباح اليوم التالي فتستيقظ متأخرا، وتبني علاقات سلبية تتواصل معك من أجل نفس الغرض وهو مزيد من الاستهلاك والارتباطات التي تستهلكنا.

حالات إدمان متابعة الموضة والماركات، وعالم التسوق المحموم الذي لا ينتهي، وجنون الشراء المتواصل، نوع من أنواع الاستهلاك الذي يستهلكك، وسائل الإعلام التي نتابعها دون أن ننتج من ذلك معرفة أو قدرة على التغيير، أو فهم للعالم ينعكس على تحسين حياتنا، ولا نستفيد منه يستهلكنا ولا نستهلكه، العلاقات الدنيا التي تفسد مشاريعنا ورؤيتنا وتقلل من سقف أحلامنا وطموحنا تستهلكنا ولا نستهلك منها شيئا ولا تعود إلينا بشيء، الهاتف النقال وبمجرد أن يخرج من كونه هاتفا مفيدا ويختصر لك الجهد والوقت إلى وسيلة ضياع للوقت تحول إلى جهاز يستهلكنا أكثر مما نستهلكه، وبرامج التواصل الاجتماعي إذا زادت علاقتك فيها أكثر من عشرين دقيقة في اليوم استهلكتك ولم تستطع أن تستهلك منها إلا الفتات اليسير أو شيئا واحدا: وهو أن تكون بالصورة، أو ماذا يحدث بالعالم، لكنك مجرد رقم في عالم المشاهير يباهي فيك أنك تتابعه لمزيد من الشهرة والإعلانات والعمل الدؤوب منه وضياع الوقت والجهد والاستهلاك المستمر لك أنت!

ربما حان الوقت لكلمة «لا» لكل تلك المستهلكات التي تؤذينا ولم يبق إلا اتخاذ القرار، فلا تترك أي شيء يستهلكك دون أن تعرف ماذا يمكنك أن تستهلك منه شيئا إيجابيا يفوق الوقت الذي منحته إياه، والأمر أكثر من هذا بكثير، ثمة أشياء تستهلكنا ولا نعرف أنها تستهلكنا أصلا ولعلها أخطر من كل شيء آخر، هو الوعي نفسه بالمستهلك لك ولوقتك ولجيبك وحياتك، فاستبصار الاستهلاك الموجه إليك هو أول خطوات العلاج، إن كان في خاطرك ثمة علاج!

Halemalbaarrak@