ريما رباح

من يباري قطر؟!

الاحد - 04 ديسمبر 2022

Sun - 04 Dec 2022

منذ لحظة الإعلان على منح قطر حق استضافة مونديال كأس العالم قبل 12 عاما، ثار جدل كبير لم ينته، بل وتواصل حتى بعد الافتتاح، ولكن قطر أثبتت استحقاقها نيل شرف تنظيم أضخم حدث رياضي، وأول كأس عالم في منطقة الشرق الأوسط، وقدمت للعالم بطولة استثنائية لا تشبه أي بطولة سابقة، وعلى مدى 90 عاما هي تاريخ المسابقة.

‏جرت عادة الدول التقليدية على استخدام القوة الخشنة، بفرض سياسة الإكراه على الآخرين لتحقيق مصالحها، مثل استخدام القوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية. والدول الحديثة اكتشفت أن القوة الناعمة هي المحرك الأقوى والأقل كلفة، إذ يمكنها من تعزيز الاقتصاد بشكل مباشر، عبر ترويج السياحة ورؤوس الأموال الاستثمارية، وقطاعات الصناعة والتصدير، واستقطاب الكفاءات العلمية والمهارات البشرية المدربة، والعقول المبدعة لخلق قاعدة صلبة متنوعة وقوة عمل مميزة، بما يخدم تطوير بنيتها التحتية في شتى المجالات، وتعزيز صورتها الثقافية، وتوطيد تأثيرها في المشهد العالمي.

أدركت قطر أن الرياضة ـ خاصة كرة القدم ـ هي أحد أهم أدوات القوة الناعمة، لأنها تفرح الجماهير الرياضية وتغذي الهوية، فقامت بإرساء استراتيجية متكاملة، منها على سبيل المثال رعاية أندية عريقة، والاشتراك في اللجنة التنفيذية للاتحاد الأوروبي لكرة القدم، وتوجت ذلك بتصميمها على تنظيم كأس العالم، باعتباره المسابقة الأكثر جذبا للانتباه للدولة المضيفة، والأعلى تشويقا وتسويقا.

‏قطر دولة غنية بالثروات، خاصة الغاز الطبيعي، وهدفها أبعد من المال، فهي تستهدف صقل دورها الاستراتيجي وعلاقاتها الدولية، وتعزيز قوتها الناعمة. وتيرة الهجوم القوي على قطر التي أفردت له وسائل الإعلام شتى أدواتها، تم تحت ذرائع متعددة، وكان مركزا على حقوق العمال وارتفاع التكلفة، ورغم ضخامة الجهود المبذولة في تسوية القضايا العمالية، إلا أن الغرب يكيل بمكيالين.

فأوروبا تعامل المهاجرين بطريقة عنصرية مقيتة، وهي حتى اليوم لم تقدم التعويضات ولا الاعتذار للشعوب عن حقبة الاستعمار. وفي المقابل، هناك تفاهم مع (فيفا) ومنظمة العمل الدولية لتأسيس مقر دائم تابع للمنظمة الدولية في قطر، التي تفتح للعمال أبواب الرزق مواجه أوروبا التي تغلقها.

‏أما التكلفة فمونديال قطر 2022 مصنف فعلا على أنه الأغلى في نهائيات كأس عالم على مر التاريخ، إذ كلف ما تجاوز عتبة الـ(200) مليار دولار، في حين أن تكلفة البطولتين الأغليين بعده، وهما: مونديال البرازيل 2016، ومونديال روسيا 2018، لم تبلغ في مجموعهما 15 مليار دولار، وتناسى البعض أن البرازيل باءت هنا بالفشل الذريع، فقد رسبت في مجال الأمن والتنقل بسبب نقص التمويل، ويتساءل العقل: لماذا حرصت قطر على بذل كل هذه الأموال؟.

الحقيقة، أن المونديال كان نقطة تحول لتسريع رؤيتها التنموية، فجزء كبير من التكلفة موجه لتشييد بنية تحتية غير مرتبطة بكرة القدم، كإنشاء مطار دولي، وشبكة جديدة من الطرق والمترو، والمرافق المساندة، إذ يندرج القطاع الأكبر من الإنفاق في تحقيق «رؤية قطر الوطنية 2030»، مما يجعل هذه التكلفة استثمارية وليست استهلاكية تنقضي مع فترة البطولة، بل منتجة للدولة على المدى الطويل في كل القطاعات: كالاقتصاد والصناعة والسياحة وغيرها، ومؤهلة لمواكبة المتغيرات التي تحتاجها البيئة، والحصول على حق الاستضافة لكل أنواع المسابقات الدولية في شتى المجالات الرياضية.

‏استطاعت قطر إضافة مستوى تقدم تكنولوجي جديد ومبتكر. ففي الناحية اللوجستية وفرت الملاعب المتطورة المزودة بتقنية التبريد، التي ستمكنها مستقبلا من استضافة البطولات الرياضية على مدار السنة. وفي الناحية الفنية وبمعاونة (فيفا) قدمت تقنية التسلل شبه-الأوتوماتيكية والكرة الذكية، للكشف عن التسلل بدقة مطلقة. وفي الناحية الإعلامية فهي الخامسة على التوالي في استخدام تقنية فيفارو ميديا للبث التلفزيوني إلى كل العالم. أما الأولوية الأهم فهي الناحية الأمنية، فالتحدي أمامها كان كبيرا بوصول 1.5 مليون زائر إلى دولة إجمالي سكانها 3 ملايين نسمة، إذ اعتمدت مركز تحكم للمراقبة خلال 15.000 كاميرا، كما فعلت مجموعة من أدوات الذكاء الاصطناعي لتجنب الازدحام العام، وتحليل أنماط السلوك غير النظامي للمشجعين، مما يساعد السلطات في اتخاذ الإجراءات الوقائية الاستباقية.

‏لكل دولة في العالم ماركة تجارية، وهي الصورة الذهنية السائدة والسمعة الدولية التي يعتقدها الناس في أقطار الأرض، ومن أهم أبعادها (الثقافة والسياحة والصادرات والتعامل مع الأجانب والاستثمار)، لذلك أصبح خلق العلامة التجارية أولوية حيوية في العالم المتقدم.

قرأت قطر تفاصيل حلمها منذ 12 عاما، فشرعت في إيقاظ كل مكامن قوتها، واجتثت كل منابت وممارسات ومعاقل الفساد التي تهدد المسار، فغدت في الأفق للانطلاق نحو السماء، ونجحت في عيون كارهيها قبل محبيها في هذا التعهد والتحدي الضخم، وحازت القوة الناعمة والسمعة الطيبة خلال إبرازها جذور الثقافة البدوية، وتراث الأصول العربية، وكتبت على مجلدات التاريخ أن العرب والخليج والمسلمين دعاة سلام وإخاء وتسامح، فهو الإعلان للعالم بضرورة محو المفاهيم البدائية التي حرص الغرب على ترسيخها لعقود طويلة. نعم، فرغم قوة الوهج في مدة البطولة وفعالياتها واحتفالياتها التي تستمر شهرا زمنيا كاملا، من لحظة الافتتاح وبدء المباريات وحتى المباراة الأخيرة وإعلان المنتخب بطل العالم، إلا أن القيمة الحقيقة لتنظيم كأس العالم تمتد إلى ما وراء كل الأحداث الكبرى، بمعنى أن البطولة يجب أن تترك بصمة ثقافية ذات مغزى في تاريخ الدولة المضيفة

‏حكما وجزما، وإن تكن هي قد فرضت معادلة شاهقة الصعوبة لمن يليها، إلا أن نقطة البداية لن تكون إلا من حيث انتهت قطر، وإذا كانت المعجزات تبدأ بحلم كبير، فكتابة التاريخ تنبثق من الإيمان به وتحقيقه في عالم اليقظة. بكل فخر، قطر سكت نسخة معيارية ماسية، وعلى كل من يأتي بعدها أن يبدأ من حيث انتهى المعيار القطري للنجاح. شكرا قطر!.

@RimaRabah