محي عبدالله القرني

الدوبامين الرخيص

الاحد - 04 ديسمبر 2022

Sun - 04 Dec 2022

الخوارزميات الرياضية والتنبؤ المستقبلي عبر معامل الذكاء الاصطناعي البرمجية وداخل عوالم قنوات التواصل الاجتماعي تقرأ الأفكار وتحدد الميول وتضع السلوك تحت مجهر المتابعة وتعمل على تهيئة مناطق الراحة للانغماس في المتع اللحظية، فتلاحظ عند دخولك إحدى بوابات التواصل تجد وابلا من المقاطع والمعلومات والإعلانات التي تقع في دائرة اهتمامك من دون أن تكلف نفسك الضغط على أيقونة البحث فما أن تفتح التطبيق إلا وتنهمر عليك رحمة ميولك وتتوسع فيها خطوط سيرك الفكري فتبقى منغمسا أطول فترة ممكنة من غير الشعور بعامل الوقت فتمر الساعات الطوال وكأنها دقائق معدودة.

لا تحدث هذه النزهة الممتعة بداعي الصدفة كما يتخيلها البعض.

الخبث التقني وقراصنة البرمجة الفكرية تسلب منك الهوية وتجعل منك سلعة رخيصة بلا ثمن تباع وتشترى بدون أدنى وعي والجدير بالذكر بأنك تحت المراقبة حتى ولو كنت خارج نطاق خدمة هذه البرامج فما أن تجري اتصالا مع صديق لتنسيق رحلة معينة وتفتح بعدها هذا الجنون التقني إلا وتحتضنك التسهيلات والخطط وعروض الإقامة والتنقلات فما يخفيه لنا عالم الظل؟

البعض يرى ذلك رائعا وهذا صحيح من زوايا معينة فلست هنا لإصدار الأحكام ولكن ما أريد الحديث عنه هو أكثر عمقا يلامس صحة الإنسان... تعرف هذه الشركات طريقة عمل المخ وتجعلك في دائرة الدوبامين الرخيص.

الدوبامين هو ناقل عصبي تفرزه أجزاء من الدماغ مقترن بالمتعة والإثارة للوصول إلى جائزة أو مكافئة أو هدف معين وبقدر علو قيمة هذه الجائزة يكون تدفق الدوبامين أكثر وهذا طبيعي ورباني أثناء العمل والاجتهاد والتعب والمحاولة والتجريب لإنجاز هدف معين للحصول بعدها على الجائزة وهو هرمون السعادة (السيروتونين).

قنوات التواصل تلعب على هذا الوتر وتوفر لك ما ترى نفسك أسيرا فيه من غير جهد ولا تعب سواء كان ذلك من خلال متابعة مقاطع البث المرئي بشقيها الأخلاقي وغير الأخلاقي أو الموضة وأدوات التجميل أو مطاعم أو سياحة أو رياضة أو غير ذلك حسب قراءة توجهاتك.

الوقت القصير الذي كان يثير إعجابك أثناء المتابعة لم يعد ممتعا كما في السابق فلابد عليك من زيادة تدفق الدوبامين بشكل أكثر وذلك عن طريق زيادة وقت المتابعة، وهكذا حتى تجلس ساعات طويلة بدون شعور بالوقت وفي كل مرحلة تستنفذ الكثير من الدوبامين، في الألعاب الالكترونية تجد إضافة مستويات متقدمة لضمان استمرارية الضخ غير الصحي وكذلك في المسلسلات، بداية الشغف بالأفلام ثم الانتقال إلى المسلسلات ذات المواسم المتعددة وكل موسم يتكون من حلقات تصل أحيانا إلى أكثر من عشرين حلقة وكل حلقة تستنفذ من الوقت ساعتين ومع نهاية الموسم الأخير ترى الاحتجاجات كما في مسلسل "GAME OF THRONES".

هذا الجهد في إفراز الدوبامين الرخيص تجد نفسك بحالة إرهاق، كسل، مشتت الفكر، ذاكرة سيئة، ملل، اكتئاب، قلق، عزلة اجتماعية، تأخر دراسي... تصبح الاجتماعات بلا طعم ولا قيمة كأنك في عزاء وعملك المؤتمن على إتمامه وتتقاضى عليه أجر تحول إلى روتين ممل في نظرك فأصبح التسويف والتأخير أيقونة نشطة مات معها الشغف، حتى العش الزوجي تحول إلى مقبرة من هول ظلام الضغط النفسي الداخلي غير المرئي.

كنا نرى كبار السن رغم عجزهم وقلة نشاطهم تشع وجوههم بالفرح والبهجة والسعادة أثناء زيارتهم، ومع تحديث بر الأولاد المطور لهم وتعليمهم طرق أسرار البهجة عبر الشاشات انتكس الوضع للأسوأ واصبح الإدمان أكثر من الأولاد في تعاطي تلك الجرعات فترى السرير الافتراضي للكثير منهم في تلك القنوات يصبح ويمسي وهو يراقب الداخل والخارج وينتقد السلوك بالصراخ أحيانا وبالترحيب تارة أخرى.

إذا وصلت إلى هذه المرحلة أو على مشارف الوقوع فأنت مستنفذ للدوبامين الرخيص وعليك بالإنتاج الصحي الفطري فما عليك إلا تنفيذ وصفة صوم الدوبامين وهي تقفيل تلك القنوات على أقل تقدير ست ساعات يوميا كمرحلة أولى بشرط فترة النوم لا تحتسب.

ستشعر بالملل والضيق وعدم التحمل في البداية وهذا طبيعي بعد ذلك ستبحث عن عمل تجد المتعة فيه قد أضعته منذ زمن، استشعر كل شيء حولك وجمال الوجود الذي سرق منك، مارس هوايتك من رياضة أو مشي أو قراءة أو تأمل أو زراعة أو تربية مواش أنت من يحدد هوايتك والقادر الوحيد على بناء مملكتك الخاصة، حدد أهدافك ومارس شغفك، على هذه الخطى أن تنتج دوبامينك الخاص الذي لا غنى عنه في الحياة، فهنيئا لك استمر في ذلك وعين الله تحميك.