صهيب الصالح

كرة القدم كـ«يوغا» سياسية

السبت - 26 نوفمبر 2022

Sat - 26 Nov 2022

لافت حقا أن رياضة كرة القدم استطاعت اختراق جميع الثقافات الشعبية بلا استثناء، فالاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) يحظى بعضوية أكثر من 210 اتحادات وطنية و6 اتحادات قارية، وعدد لاعبي كرة القدم المسجلين ضمنه يتجاوز 270 مليون لاعب في العالم، ويتهيكل الاتحاد متكاملا بلجان قضائية ومالية وأخلاقية وتأديبية، وأخرى تناقش الاستدامة وتقرها، مما يؤهل هذه اللعبة إلى أن تصبح بمكانة النظام المستقل والمكتفي بسلطته وموارده الذاتية، وهي المكانة التي أعطت القوة الكافية لرئيسه السويسري جاني إنفانتينو لتوجيه النقد اللاذع للكتلة الغربية قبيل افتتاح بطولة كأس العالم المقامة هنا في قطر، التي تابعها أكثر من3.5 مليارات إنسان، ولم تخل من مساجلات تتجدد حول الخطوط الفاصلة بين الرياضة والسياسة.

تبدو كرة القدم في ظاهرها، وكما يحب عشاقها تصنيفها، بأنها مجرد لعبة شعبية نقية تتسلى بها الجماهير المولعة وتجد في ملاحقة مبارياتها ما يملأ الوقت ويشبع نزعاتهم الذاتية نحو تحقيق رغبة الفوز والغلبة الجمعية، وهذا ما يدفع الأشخاص باستمرار إلى السؤال عن فرق ولاعبي الآخرين المفضلة، لكن حقيقتها أعمق من ذلك بالفعل، ويظهر ذلك جليا من خلال المصطلحات التي تستخدم في وصف أحداثها من قبيل «مجد، موقعة، معركة، ملحمة كروية، لاعبون مقاتلون...» وما تعطيه من شعور بالفخر أو العار في حال الفوز أو الخسارة، فكرة القدم تجسد على الأرض صراعا جسديا وبدنيا ولكنها غالبا ما تكون مدفوعة بتصادمات فكرية وأيديولوجية، خاصة في العصر الراهن، لذا ينسحب الفوز الرياضي مباشرة إلى مجالات أخرى للمواجهة، وقد وصفها الشاعر محمود درويش بأنها «الحرب الوحيدة» التي تنتهي بالعناق وتبادل التحايا دون مفاوضات دبلوماسية أو قرارات أممية.

إن ما حققته هذه اللعبة من مدى في الانتشار العالمي أثار شهية السياسة باعتبارها حقلا شموليا يخضع كل الظواهر إلى بلاطه، إلى درجة جعلت مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية الفرنسي باسكال بونيفاس يقول «لو عمل الأمريكيون على نشر الديمقراطية بالحماس نفسه الذي نقل به الإنجليز كرة القدم لكان الحال أفضل اليوم في العالم» وله رأي بديع في كتابه «كرة القدم والعولمة» المنشور عام 2006 يؤكد فيه أن كونية كرة القدم لم تلزمها على أن تكون من الظواهر الداعية للانسلاخ عن الهوية الوطنية، بل على العكس يعتبرها استثناء يحافظ على الهوية الوطنية ويدافع عنها ويقرب بين الشعوب في عصر العولمة.

وما أظنه هو أن كرة القدم إذا كانت في منافسة على المستوى الوطني، فإن بإمكانها شحذ الروح الوطنية وإظهار مشاعر الإخاء والقربى، وخلق درجة عالية من الرضا الاجتماعي حتى من أولئك الذين لا تستهويهم كرة القدم، ومن هنا يمكن فهم وتفسير احتفاء الجماهير العربية بالفوز السعودي على منتخب الأرجنتين الثلاثاء الماضي في البطولة القائمة الآن في قطر، فلم يكن الاحتفال سعوديا ولا حتى خليجيا، بل كانت مشاعر الفرح تسع العالم العربي برمته بما يحمله من مقيمين غير عرب.

لذلك، يصعب إنكار حالة الاشتباك بين الرياضة والسياسة ليس لكونها تجسد الصراع الفكري وتؤثر على الروح الوطنية والمزاج الاجتماعي وحسب، بل لأنها أصبحت أداة لمعاقبة الدول، وطريقة لإلزام دول أخرى أو الضغط عليها للانخراط في تطبيق قيم ما، أو تمرير سياسات أخرى، وسبيلا لتسليط الضوء على حالات اجتماعية واقتصادية وقضايا سياسية، وجماهيرها تعرف الكثير من الأمثلة على ذلك وتتداولها بوعي ونضج كبيرين، ورغم ذلك ستظل كرة القدم هي الوحيدة التي بإمكانها ممارسة اليوغا في منتصف مسرح سياسي مضطرب، وستستمر السياسة في الاقتراض من شعبيتها الجارفة نظرا لاشتباكها مع جوهر الرياضة نفسه، إذ يقوم كلاهما على مبدأ المنافسة والصراع.

@9oba_91