عبدالعزيز الخضر

احتساب فرنسي ضد البوركيني

السبت - 27 أغسطس 2016

Sat - 27 Aug 2016

جاءت أزمة فرنسا مع علمانيتها هذا الصيف بصورة مختلفة، وبمشاهد أثرت على ما بقي من تبريرات لبعض قرارات الماضي وسجالات تتعلق بالحريات الشخصية وحدودها في الفضاء العام. الخصوصية الفرنسية هذه المرة فاجأت حتى الرأي العام غير المحافظ، وكأن القضية تحولت إلى خصومة مع الاحتشام ذاته، وأظهرت مواقع التواصل شيئا من ردود الفعل، وتعليقات بعض الصحف الغربية.



كان يمكن تصور الموقف ضد البوركيني (زي البحر المحافظ) بعدة لقطات كاريكاتورية أو مشاهد إعلامية ساخرة، إلا أن يكون هناك قانون وغرامات وملاحقة بالشواطئ استفزت مع تطبيقها كثيرا من الغربيين.



من الخطأ ربط الحالة الفرنسية اليوم بالأعمال الإرهابية الضخمة التي حدثت مؤخرا وهزت المجتمع الفرنسي فقط، فالواقع أن القلق بدأ مبكرا منذ الثمانينات 1989م، وحينها لم توجد كثير من معطيات الحاضر اليوم، عندما أثيرت ضجة حول طرد ثلاث فتيات مغربيات من معهد في إحدى ضواحي باريس. ما بين رؤية تدعو لدمج المحجبات في المجتمع الفرنسي مقابل رؤية تدافع عن علمانية المدرسة وإبقاء الدين في المنزل، مرورا بالتسعينات، ثم ما حدث ما بين عام 2003 و2004م في عهد جاك شيراك وتصريحه بأن الحجاب رمز للانقسام الاجتماعي ثم موافقة البرلمان الفرنسي بالأغلبية، وصدور قانون يَمنع التلاميذ من إظهار الرموز الدينية العامة في المدارس العامة، ثم منع النقاب في الأماكن العامة 2010م.



هذه التجاذبات في الداخل الفرنسي سبقت موضوع العنف بصورته الداعشية أو القاعدية، ولكن من المؤكد أن أعمال العنف قادرة على تسريع وتسهيل مهام الأصوات المتطرفة المقابلة، وتمرير حزمة من القرارات التي تقيد الجالية المسلمة أكثر من غيرها، وتضعف حضور الأصوات المعتدلة في الرأي العام الغربي.



مثل هذا القرار بهذا الانكشاف ليس بحاجة لأن نستعرض مدى تجاوزها في التدخل بالحرية الشخصية، فالشاطئ عادة هو فضاء جانبي موقت بزمن محدود يمارس فيه الفرد حريته بين المياه والرمال. لكن هذا يجب ألا يعتبر فرصة لممارسة الشحن العاطفي للجمهور كما يحدث منذ الثمانينات بدون تعقل ووعي لطبيعة الإشكاليات التي تواجه تطبيق أي فكرة مدنية أو دينية.



فما ميز التجربة الغربية بكل أشكالها ودرجات علمانيتها، وتفوقت بها على عالمنا أنها اشتغلت على مدار القرنين الأخيرين حول خياراتها السياسية والقانونية لتحديد مكان الدين في المجال العام وتنظيمه، وحتى دهشة الوعي العام من غرابة القرارات الفرنسية الأخيرة وتنفيذها، لم يأت من قياس تجارب حضارية متناقضة مع التجربة الغربية، وإنما من مقارنتها بالحريات في كثير من التجارب الغربية ذاتها، التي أصبحت كأحد فتن العصر الجذابة، فممارسة الطقوس الدينية في الغرب وحرية التعبير في ذلك تفوق غيرها، وحتى إشكالية الزي فالجميع يعرف وجود هذه الفوارق ففي بريطانيا يمكن حتى موظفات الجمارك والشرطيات ارتداء الحجاب وغيرها.



ما يجب أن يعيه البعض أن المشكلة الفرنسية ومثيلاتها تظهر خصوصيتها وشذوذها في إطار التجربة الغربية الأوسع، وليس مقارنة بما عند غيرها من عوالم أخرى، ولهذا ليس من الجيد للوعي الشعبي أن يستطرد البعض في بكائيات على الحرية وهو يستند على مفاهيم تعاني هي الأخرى من أزمات التطبيق داخل تجربتها وثقافتها، فهذه ليست مشكلة العلمانية فقط، فحتى في إطار إعلان دخولك تحت مظلة ثقافة أو دين معين ستواجه إشكالية درجات التطبيق وحدوده العملية، ولدينا عدة دول إسلامية وعربية، والإشكال ليس في أن تقارن بين قانون ونظام فرنسي بنظام بلد آخر، وإنما التحدي العملي يأتي لكل تجربة من داخل ثقافتها وخطابها عندما تريد التمييز بين الفضاء العام والخاص وحدود الحريات الشخصية، فمثلا حتى في مجتمعنا ومجتمعات مسلمة أخرى خلال أكثر من نصف قرن نجد تحولات كبرى في شكل الحجاب وتصميمه، فكل مجتمع يواجه المشكلة بدرجة مختلفة، وهي حدود الحرية في الفضاءات العامة، وحتى الرأي الفقهي.. ينزاح تدريجيا ويتعرض لمتغيرات كثيرة بالمواجهة والرفض أو السماح والتجاهل، أشير لهذه التحديات حتى لا ينزلق البعض إلى الكسل الذهني الضار بوعينا الحقيقي، والاندفاع خلف سهولة وجاذبية الصراخ والهجاء والتباكي بكتابات قابلة للتسويق أكثر عبر مواقع التواصل.



وهذا لا يمنع مرة أخرى من تأكيد حقيقة وجود قلق أوروبي عام من الإسلام يتحدث عنه كثير من الغربيين مع مشكلات الهجرة «فالقلق من الإسلام حقيقي في جميع البلدان الأوروبية غير أنه يتكيف ويرى وفقا لمثال متولد من الثقافة السياسية لكل من هذه البلدان، والعناصر الصادمة مختلفة من بلد إلى آخر» ما يحدث خلال هذه السنوات يوكد أن الإسلام يشكل قلقا خاصا أكثر في فرنسا اليوم لأن له وزن ديموجرافي أكبر من حركات أخرى كما يشير إلى ذلك الباحث الفرنسي (أوليفيه روا). فهل فرنسا مختلفة عن غيرها من الدول الغربية أم أن نوعية التحدي الديموجرافي المختلف جعلها تتصرف بهذا الأسلوب!؟



[email protected]