عبدالحليم البراك

يصنعون (التاريخ والعلم والنظريات) دون أن يشعروا!

الاثنين - 21 نوفمبر 2022

Mon - 21 Nov 2022

«البشر يصنعون تاريخهم، دون دراية بالتاريخ الذي يصنعونه» (كارل ماركس).

تدور هذه العبارة عن أولئك العظماء الذين يركزون على أعمالهم وقضاياهم بشكل مستمر، دون أي تركيز على النتيجة، لأن النتيجة نهاية وهم لا ينتهون، قد تكون عبارة ماركس تختص بالتاريخ نفسه؛ لأنه ابن الفيلسوف الجدلي التاريخي «هيجل» فركز على التاريخ، لكنها تنطبق حتما على فضيلة التركيز على العمل المستمر وليس التركيز على النتيجة!

إن أولئك الذي يصنعون التاريخ لا يهتمون بالتاريخ بالفعل، فهم مهتمون بصناعة العمل نفسه أو صناعة الأمة التي عملوا من أجلها وكل ما هناك أن التاريخ سجل تأثير استمرار أعمالهم وفتح لهم أبواب صفحاته ورواته وأحاديثه فلم يكونوا يخططون أن يكونوا أيقونة تاريخية أو أوائل تاريخيين، بل غايتهم عمل مستمر لا ينتهي، فالنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن يخطط أن يكون أعظم مائة رجل بالتاريخ، بينما كان كل تركيزه على نشر رسالته، ولم يكن المسيح عليه السلام وهو يتلقى الآلام ينوي أن يكون رجلا عظيما أكثر من نيته أن يخلص البشرية الوثنية من سباتها العميق وبعدها عن الدين السماوي، كما أن نابليون وهو يغزو العالم لم يكن يركز على ما كان سيقوله هيجل عنه عند دخوله لبروسيا، لعظمته، بل يفكر في خيرات العالم!

والسؤال أيضا لا يزال مطروحا بقوة: هل كان نيوتن وهو يغير وجه الفيزياء بنظرياته الفيزيائية التقليدية ينوي أن يغير العالم أم إن تركيزه كان علميا منصبا على الجاذبية الأرضية وما يتبعها من قوانين تساعد في فهم العالم، وهل كان العالم الكبير انشتاين وهو ينقض الفيزياء الأرضية بأنها لا تنطبق على فيزياء الكونية بالنظرية النسبية كان يظن أنه سيكون أيقونة الذكاء الإنساني في العالم؟!

وأيضا، هل كان كوبرنيوكوس عندما عاند كل القيم السائدة وأعلن أن الأرض ليست مركزا للكون، وقال مخطئا بأن الشمس هي مركز الكون، وذهب هو ضحية هذه الفكرة، هل كان يفكر أن رجلا صغيرا سيكتب عنه مقالا بعد أكثر من سبعمائة سنة قائلا عنه إنه أحد محاور التغيير في العالم، وهل كانط المعجب بجاك روسو يعلم أنه أعظم من روسو نفسه، وأن كانط كان محورا من محاور نظرية المعرفة الإنسانية وأن تغييره كان ثورة في فهم العلم والميتافيزيقيا والأشياء من حولنا وكيف نفكر فيها؟ أم كان يعلم أن من أيقظه من سباته الدوغمائي «ديفيد هيوم» العظيم بنظره سيكون هو أعظم منه بأن دفعه إلى تأليف كتابه الشهير «نقد العقل الخالص»؟

إذن الذين يصنعون النظريات الكبرى كانوا يركزون على الهدف المستدام وهو إنتاج العلم المستمر، وليس إنتاج النظرية، ومن خلال إنتاج العلم تخرج النظرية، والذين يعملون لأهدافهم الكبيرة لا يفكرون في التاريخ لكن في نهاية الأمر هم يصنعون التاريخ، ومن يكونون جزءا كبيرا من السرديات الكبرى هم أناس غيروا العالم لم يكونوا يفكرون في تغيير العالم لكنهم علموا بشيء وذهبوا للشيء المستدام وهو إنتاج العمل ومن خلاله تخرج الأفكار العظيمة والأعمال العظيمة ولا يفكرون بالثمرات النهائية دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الزراعة المستمرة للحقل ثم الزراعة وبعدها الزراعة حتى تأتي مرحلة إنتاج غزير عظيم لا يقارن بأحد!

أخيرا يمكنني تصغير الأمر حتى يتم فهم المقصد من هذا المقال، إن كان هدفك قراءة كتاب ما لتصبح مثقفا أو قارئا، فربما تقرؤه وربما لا تتمه، وربما تتمه ولا تفهمه لأن هدفك إنهاء الكتاب، ولربما فهمته لكنك مهدد بنسيانه، لكن من كان هدفه القراءة اليومية، فإنه سيقرأ هذا الكتاب ويلتهمه ويلتهم غيره كل يوم، فهو يقرأ بشكل مستمر لأن هدفه المستدام هو القراءة وإن لم يفهم الكتاب المستهدف فهو سيفهمه لاحقا (بكونه الحتمي مثقفا) ما دام هدفه أن يكون قارئا وليس هدفه قراءة كتاب.

Halemalbaarrak@