سالم الكتبي

معركة «الصورة» و«الحبوب» و«الصفقات» في الأزمة الأوكرانية

الأربعاء - 16 نوفمبر 2022

Wed - 16 Nov 2022

يمثل استئناف روسيا لالتزاماتها في إطار ما يعرف بصفقة الحبوب نموذجا للصفقات الدبلوماسية التي تعقد بين أطراف مختلفة في هذه الظروف الدولية المعقدة، والقائمة أساسا على فكرة «رابح ـ رابح»، حيث تشير جردة الحساب في هذه الصفقة إلى أن روسيا لم تقدم تنازلات للدبلوماسية التركية التي لعبت دور الوساطة لإعادة روسيا للصفقة بعد أن أعلنت «تعليقها» لأجل غير محدد. حيث جاءت موافقة الكرملين لاستئناف الصفقة على خلفية الرغبة في إنجاح مبادرة موسكو بشأن إنشاء مركز تسويق للغاز في تركيا، ومن هنا يمكن فهم أحد دوافع الرغبة الروسية في نجاح الجهود التركية بشأن استئناف موسكو لدورها في صفقة الحبوب.

على الجانب الآخر فإن تحول تركيا إلى مركز لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا بحسب مقترح الرئيس بوتين، الذي وافق عليه الرئيس إردوغان وتحمس له بشدة، يخدم المصالح الجيواستراتيجية والجيوسياسية للطرفين معا، حيث يبدو واضحا أن روسيا تسعى للحفاظ على أسواق الغاز الأوروبية مستقبلا، وتريد ممرا أكثر أمنا للغاز بعيدا عن خطى أنابيب «نوردم ستريم» الذي يعتقد الكرملين أنه تعرض للتخريب بأيد غربية لم يحددها، للوقيعة بين روسيا ودول أوروبا.

تركيا بالتأكيد تلقفت هذه المبادرة بكل ترحاب، فهي بمثابة هدية جاءت في وقتها تماما، وتعد أحد المكاسب الاستراتيجية غير المباشرة لتركيا من الأزمة الأوكرانية وتداعياتها، حيث تمنحها هذه المبادرة الروسية ورقة قوة هائلة في مواجهة الاتحاد الأوروبي، ويعزز موقفها في أي مفاوضات مستقبلية مع الاتحاد، ولا سيما فيما يتعلق بتحديد طبيعة العلاقة بين الطرفين.

ما حدث إذن هو صفقة مبادلة مربحة للطرفين، الروسي وبدرجة أكبر التركي، والمستفيد الأكبر من الصفقة هي الدول التي تستورد الحبوب من روسيا وأوكرانيا، حيث كان الاتفاق على تصدير الحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود ورفع الحصار الروسي عنها، انفراجا مهما في ملف أزمة الغذاء التي تهدد دولا كثيرة بمجاعة بل وعدم استقرار سياسي وأمني.

الإحصاءات تقول إن روسيا وأوكرانيا معا تزودان العالم بنحو 30% من احتياجاته من القمح و29% من الشعير، و75% من زيت دوار الشمس، و15% من الذرة، وروسيا هي أهم منتج للأسمدة في العالم، وهذا بدوره يؤثر في أسعار الحبوب.

والمؤشر الأهم في هذا كله أن 90% من صادرات البلدين من الحبوب تنقل عبر البحار.

أوكرانيا بمفردها مصدر حيوي للحبوب الغذائية، وتسهم بنحو 45% من تجارة زيت عباد الشمس عالميا، و16% من الذرة و9% فقط من القمح، ونسبتها من القمح قد تبدو محدودة ولكنها مؤثرة للغاية في ضوء اعتماد بعض البلدان بشكل شبه كامل عليها، كما أن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة يعتمد عليها في توفير 40% من احتياجاته من الحبوب للدول التي تقف على حافة المجاعة مثل إثيوبيا وأفغانستان.

يشير ما سبق إلى أن حصة أوكرانيا في مجمل أسواق الحبوب العالمية ربما تجري المبالغة فيها بشكل متعمد، لذلك فإن عودة روسيا إلى صفقة الحبوب ليست تنازلا بالمعايير الاستراتيجية، بقدر ما هي خطوة جيدة للتخلص من محاولات الغرب الحثيثة لتحميل موسكو مسؤولية غلاء الأسعار وأزمات الغذاء العالمية بما يعنيه ذلك من تشويه لصورة روسيا وسمعتها، وبالتالي فهي ـ بتقديري ـ خطوة محسوبة وليست تراجعا أو تنازلا بأي حال، ولا سيما أن المسألة تهم دولا تسعى روسيا إلى تعزيز نفوذها فيها خلال المرحلة الراهنة مثل دول أفريقيا والشرق الأوسط، وبما يسهم في توسيع جبهة الحياد العالمي في الأزمة الأوكرانية إن لم يكن يسهم في استقطاب دول جديدة لصف موسكو.

ما يعزز حجية الموقف الروسي في العودة إلى صفقة الحبوب هو التفرغ لإدارة صراع أكثر شراسة مع الدول الغربية، على الأقل على المستوى الدعائي إن لم يكن العسكري، بسبب تفاقم تداعيات نقص الغاز الروسي ودخول فصل الشتاء في أوروبا بكل ما يعنيه ذلك من عواقب للحكومات الأوروبية، حيث تنتشر موجات غضب شعبي في دول أوروبية عدة، جراء ارتفاع أسعار مواد الطاقة بسبب انقطاع إمدادات الغاز الروسية، التي تلقي شريحة ليست قليلة من الشعوب الأوروبية مسؤوليتها على حكوماتها التي تفرض عقوبات على روسيا.

الأرجح أن تداعيات الانسحاب الروسي من الصفقة على الصعيد الدعائي عالميا، قد دفعت الكرملين لمراجعة موقفه ومنح تركيا مكسبا شكليا مقابل موافقتها على تنفيذ مبادرة مركز الغاز الروسي، فضلا عن منح الدبلوماسية التركية إنجازا يعزز موقفها في صراع النفوذ مع حلفاء الأطلسي، لا سيما بعدما ثبت أن هؤلاء الحلفاء هم المستفيد الأساسي من صادرات الحبوب الأوكرانية، فضلا عن محاولة تحييد موقف تركيا فيما تبقى من صراع حول أوكرانيا.

روسيا من ناحيتها دخلت معركة الصورة بثقلها في محاولة لامتصاص التشويه الذي لحق بها عقب الدعاية الغربية بالتسبب في مجاعة عالمية، حيث أعلنت وزارة الزراعة الروسية استعدادها للتعويض عن الحبوب الأوكرانية بالكامل، وتسليم نحو 500 ألف طن من الحبوب (تزود أوكرانيا العالم عادة بحوالي 45 مليون طن من الحبوب سنويا) إلى الدول الأكثر فقرا مجانا خلال الأشهر الأربعة المقبلة، مما يعني أن روسيا مستعدة لتقديم عشرة أضعاف صادرات أوكرانيا السنوية مجانا للدول الفقيرة، وهذه خطوة تدفع موقف روسيا في صراع النفوذ العالمي مسافات بعيدة للأمام.

الخلاصة إذن أن جزءا كبيرا مما يدور عالميا بات يتمحور حول معركة الصورة التي تمثل جزءا لا يتجزأ من الصراع على القوة والنفوذ بين القوى الكبرى لإعادة تشكيل ملامح عالم ما بعد أوكرانيا، وأن الكثير مما يدور من حولنا ليس سوى صور نمطية تروجها «الميديا» العالمية التي يسيطر عليها الغرب للهيمنة على اتجاهات الرأي العام العالمي التي تشكل أحد جوانب الصراع الدائر وأحد أسلحته أيضا.

drsalemalketbi@