صهيب الصالح

القوة تؤجل «حركة التاريخ» في إيران

السبت - 12 نوفمبر 2022

Sat - 12 Nov 2022

تغلق المظاهرات الإيرانية هذا الأسبوع شهرها الثاني، إذ اندلعت في 16 سبتمبر الماضي في عدد من المدن الإيرانية، اعتراضا على مقتل الفتاة الكردية الإيرانية مهسا أميني ضربا بأيدي شرطة الأخلاق الإيرانية، نظرا لعدم ارتدائها الحجاب الملائم للنظام الإيراني.

وقد كانت السلطات الأمنية الإيرانية والدينية كذلك على درجة عالية من الحذر في التعامل مع هذه المظاهرات منذ اندلاعها لأسباب عدة، أهمها طبيعة الشعارات التي تحملها الحشود المتظاهرة وشريحتها الاجتماعية، وتأتي تاليا الضغوط الدولية في أكثر من اتجاه مع ما يتماس مع المصالح الإيرانية التي كانت آخذة طريقها نحو التحقق، مثل مفاوضات الاتفاق النووي ورفع العقوبات الدولية ضد إيران، إضافة إلى مقاربة إيران من الأزمة الأوكرانية وتوجيه أصابع الاتهام إلى طائراتها المسيرة أخيرا في تحقيق الأهداف الروسية من ضرب البنى التحتية للطاقة في أوكرانيا؛ لذا ترددت مؤسسة الولي الفقيه كثيرا قبل أن تنتهي من صياغة رواية تبرر لها البدء في قمع المحتجين.

يعتبر كثير من المراقبين والمختصين في الشأن الإيراني أن هذه المظاهرات هي الأوسع منذ مظاهرات نوفمبر 2019 التي اجتاحت 100 مدينة إيرانية، وسقط فيها مئات الضحايا احتجاجا على رفع أسعار المحروقات آنذاك، ومن هنا، تكتسب المظاهرات الراهنة طابعها المختلف، إذ إن إيران اعتادت سنويا على خروج العشرات من المظاهرات من الطبقات الأكثر عوزا والأكثر انحطاطا في السلم الاجتماعي، واعتادت حتى على سماع مطلبية سقوط النظام ورحيل الدكتاتور خامنئي، وهذه العادة السنوية المتبادلة بين فقراء الإيرانيين وسلطاتهم قد صقلت الخبرة في إدارة المظاهرات في أذهان وأسواط الأجهزة الأمنية - الثورية - والمؤسسة الدينية المشرّعة، بينما قتلت في الوقت نفسه دواخل تلك الأنفس مدقعة الفقر؛ حتى صار يسهل على السلطات الإيرانية نظريا إدارتهم بأدوات الترويع والقمع بكل اطمئنان، وهذا يؤشر إلى أن تماسك الأجهزة الأمنية مع السلطة الإيرانية كلما أظهر صلابته وتوحده في وجه الغاضبين كلما راهن في صدهم على قوة النظام نفسه، رغم كل ما يتعرض له من أزمات داخلية عميقة.

لكن صفوف المحتجين هذه المرة لم تتشكل من أجساد الفقراء الهزيلة ولا من عرقية واحدة يسهل إحالة حراكها إلى المؤامرة الكونية ضد النظام الإيراني، إذ تشكلت من شرائح واسعة من مرفوضات المجتمع الإيراني الآتية من عرقيات وطبقيات فقيرة ووسطى وغنية أيضا، فانخرط فيها العمال والقرويون والأقليات الدينية والعرقية، وأولئك الذين لم ينسوا بعد هزيمة الحركة الخضراء، وبالتأكيد هناك عشرات الآلاف من المؤيدين الصامتين الذين يرون أن ما بحوزتهم من أزمات يكفيهم عن الاحتشاد، فلم يجمع المتظاهرين طابع معيشي هذه المرة وإنما اجتمعوا بطابع فكري مضاد لثيوقراطية النظام، وامتازت هذه المظاهرات دون غيرها بإشعال فئة الشباب المحبط فتيلها بشعارات الحياة والحرية؛ مما يعني أن الجيل الإيراني الصاعد هو جيل متصل بالعالم الخارجي أكثر من الأجيال السابقة، وهو على درجة جيدة من الإيمان بوهم الفكرة اللاهوتية للولي الفقيه.

على الجانب الآخر يربض حائرا على رأس الحكومة الإيرانية إبراهيم رئيسي، الذي يصنف نفسه على أنه أصولي متشدد، وهو فعليا أكثر من كونه كذلك، فكان خطابه دائما ما يركز على استعادة مبادئ الثورة الإيرانية، وإعادة القيم والثقافة الشيعية الإثني عشرية، وقد قاده انتماؤه للتيار المتشدد إلى تنظيم حكومته مسيرات لنساء يرتدين «التشادور» ويحملن صورا لخامنئي في مدن مثل طهران وقم، كمحاولة بائسة لاستقطاب الداخل لدعم قانون «الحجاب والعفة» الذي أعلن عنه بتاريخ 12 يوليو الماضي، وهو اليوم الذي يوافق «اليوم الوطني للحجاب والعفة» في إيران، وهذه الإجراءات الحكومية، جنبا إلى جنب الهتافات المنادية للحياة والحرية؛ تفند اتهامات الحكومة الإيرانية بوقوف أطراف دولية من خلفها، كما تجعلنا نتحسس الفجوة الشاسعة بين فكرة النظام اللاهوتي وأفكار الجيل الصاعد في إيران.

وقبل الزعم بأن المظاهرات ستغير النظام الإيراني، أو ستعرقل تاريخ سطوة العمامة على الحياة الخاصة والعامة، من المهم الوقوف عند افتقار هذه الحشود إلى المشروع السياسي الواضح الذي يستكمل حركة التاريخ، والقيادة التي يمكنها التخطيط والتقدم التدريجي خطوة بخطوة نحو صومعة الولي الفقيه نفسه، وهذا يدلل على عدم امتلاك هذه الحشود وعيا سياسيا كافيا لا بالأزمة الراهنة ولا بنظام بلادهم أيضا، فعندما تطالب الحشود أولا بسقوط الدكتاتور في نظام متعدد المؤسسات الأمنية التي تضم عشرات الآلاف من الحاملين ولاءات عقدية للنظام، وليس مجرد انتماء سياسي يمكن إعادة تدويره لصالح الحراك، تكون هنا قد وضعت كرة الثلج في أفران الباسيج الثوري ليس إلا، وهذا ما يشجع على القول إن مسار المظاهرات الراهنة قد يتصاعد ويطول وتتسع رقعة المطالب أيضا، لكن النهاية المادية لن تكون في صالح هؤلاء الغاضبين، بل إن الأقرب أن تتبخر تطلعاتهم وينحسر غضبهم إلى ما خلف أبواب غرف معيشتهم فقط، ويكفيهم من عناء التظاهر هو أن شعارهم كان فكريا أكثر من كونه ينم عن حاجة في اللحم والدم، والفكر طبعا لا يموت.

@9oba_91