ازدواج المعايير في الذهن الغربي
السبت - 12 نوفمبر 2022
Sat - 12 Nov 2022
تمكنت الآلة الإعلامية الغربية من ترويج صورة قيمية للإنسان الغربي إجمالا، وحرصت على تبييض صفحة سياسييها الذين ما خلقوا أساسا، حسب ترويجها الإعلامي، إلا ليرعى كل واحد فيهم مصالح الشعوب الأخرى، ويهتم لقضاياهم الإنسانية، بل وأظهرت سينما هوليود الأمريكية الجندي بمظهر إنساني أنيق، يحرص على سلامة الأبرياء حال مواجهته للخصم، الذي دائما ما يكون بربريا في سلوكه ومنظومة قيمه الأخلاقية.
تلك هي ملامح الصورة التي لا تزال تتكرر في وسائل الإعلام والسينما الغربية، وهي السمة التي آمن بها كثير من المشرقيين وتصوروا أنها حقيقة، حتى إذا أفاقوا وجدوا أنفسهم قد عاشوا كذبة كبرى اسمها العدالة والقيم الغربية، تلك التي روج لها الإعلام الغربي بمنتهى الاحترافية، على الرغم من أن تطبيقها على الإنسان الآخر معاكس تماما لما يروج له، وعادة ما تنهار مع أول محك حقيقي.
والأمثلة على ذلك متعددة، ولعل في التجربة المعاصرة خير دليل على ذلك، وفق حديث وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودي عادل الجبير مؤخرا، الذي كشف بحديثه السلس وجها من وجوه ازدواج المعايير الأوروبية والأمريكية في التعاطي السلبي مع الشأن البيئي جراء أزمة الغاز والبترول المعاش بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
على أن الأمر ليس جديدا ضمن السياق الغربي بوجه عام، إذ عمل أولئك منذ ابتداء عهد الكشوف الجغرافية وتوسعهم خارج نطاق قارتهم، على قمع الآخر بوحشية قاتلة ليستجيب لرغباتهم، ولم يتورع المحتلون الأوائل عن استخدم أبشع الطرق للقضاء على خصومهم، واستعبادهم باستخدام مختلف التبريرات القانونية من وجهة نظرهم، والغريب أنهم لم يرو في ذلك أي جريمة تذكر، ولا يشعرون بعقدة الذنب حتى اليوم ليقوموا بالاعتذار الإنساني من كل الشعوب التي أهلكوها.
في هذا السياق، يخطر في بالي حربهم للصين بهدف فرض تجارة الأفيون المخدر عليهم، وهو أمر تستنكره كل القيم والأخلاق، لكنهم لم يأبهوا لذلك طالما وأنهم غير مستهدفين في حالهم الداخلي. وفي هذا تذكر الوثائق أن الحكومة البريطانية قامت عبر شركة الهند الشرقية التابعة لها بزراعة الأفيون المخدر في المناطق الوسطي والشمالية من الهند، ثم عمدت إلى تصديره للصين، وحين توجه الإمبراطور إلى منعه بسبب انتشار المدمنين في بلاده، قررت بريطانيا إعلان الحرب عليهم بذريعة تطبيق مبدأ حرية التجارة.
هكذا هي المعايير المزدوجة في الذهن الغربي إجمالا، التي ترى القيم من زاويتها، وتنظر للعدالة من جانبها، فما يحقق مصلحتها الاقتصادية، ويوسع من دائرة نفوذ رجال أعمالها ودهاقنة السياسة فيها، فهو عدل وحق، وما يتعارض مع مصلحتها الاقتصادية ويقلص من نفوذ شركاتها الرأس مالية، فهو باطل ومخالف لكل منظومات القيم والأخلاق الإنسانية. والأمثلة على ذلك كثيرة ليس المجال لاستحضارها.
وواقع الحال، فلا يعني القول بما سبق أن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية قد خلتا من نماذج قيمية جميلة، وأنهما لم يطورا من منظومتهما القانونية والحقوقية بشكل عام، لكن ذلك ظل محصورا ببنية الحياة المجتمعية على الصعيد الداخلي، بمعنى أن القيم والعدالة والحقوق تكون متاحة للإنسان في بلدانهم فقط، لكن في خارجها فالأمر مختلف، وهو مرهون بحسب مصلحتها وحاجتها بالدرجة الرئيسة.
أشير إلى أن الأوروبيين لم يرحموا أنفسهم حال احتدام الصراع المسلح بينهم، فأزهقوا أرواح بعضهم بعضا بشكل لا يصدق، إنه التاريخ الذي يصعب نسيانه، وهو الذي سجل قتل أحد عشر مليونا منهم خلال الحروب الأوروبية التي عرفت باسم حرب الثلاثين عاما، وصولا إلى الحرب العالمية الأولى التي قتل فيها قرابة العشرين مليون إنسان، وقتل في الثانية قرابة خمس وثمانين مليون إنسان، وصولا إلى ذبح البوسنيين بدم بارد في أواخر القرن العشرين وأمام نظر كل القوى الأوربية المتشدقة بالعدالة الإنسانية.
ناهيك عن اجتثاثهم كل السكان المحليين في الأراضي الجديدة بأمريكا الشمالية والجنوبية، وفي ذلك قصص لا تصدق، وحيل بشعة استخدموها لتنفيذ مآربهم، علاوة على تجارة الرق التي نفذوها ببشاعة في أفريقيا، حتى قدر عدد الأفارقة الذين تم استعبادهم وبيعهم وإرسالهم إلى الأمريكتين بالملايين عبر الشركات الإسبانية والإنجليزية والتجار الإيطاليين والألمان والبرتغال وغيرهم، وكل ذلك كان عملا مقبولا من وجهة نظرهم، وتصدر له الحكومات الأوربية التصاريح اللازمة، كما يمكن للشعب أن يستثمر أمواله في تلك الشركات، وحين انتهى المقصد والربح المالي بات أمرا محرما، وتم التغافل عنه ودفنه في دهاليز ذاكرتهم.
ختاما، لا أذكر ما كتبت لأقول إننا كأمة عربية ملائكة في ذواتنا، ولكننا حتما بشقينا المسلم والمسيحي أكثر إنسانية من غيرنا، وتحركنا منظومة قيم وأخلاق كريمة، جاء النبي الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام ليتممها، وأجزم أنها مخبوءة في دواخلنا، وأرجو أن نعمل على استعادة بنيانها من جديد، لنحقق باكورة ما نريده من نهضة وتقدم. وليس ذلك بعزيز.
zash113@
تلك هي ملامح الصورة التي لا تزال تتكرر في وسائل الإعلام والسينما الغربية، وهي السمة التي آمن بها كثير من المشرقيين وتصوروا أنها حقيقة، حتى إذا أفاقوا وجدوا أنفسهم قد عاشوا كذبة كبرى اسمها العدالة والقيم الغربية، تلك التي روج لها الإعلام الغربي بمنتهى الاحترافية، على الرغم من أن تطبيقها على الإنسان الآخر معاكس تماما لما يروج له، وعادة ما تنهار مع أول محك حقيقي.
والأمثلة على ذلك متعددة، ولعل في التجربة المعاصرة خير دليل على ذلك، وفق حديث وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودي عادل الجبير مؤخرا، الذي كشف بحديثه السلس وجها من وجوه ازدواج المعايير الأوروبية والأمريكية في التعاطي السلبي مع الشأن البيئي جراء أزمة الغاز والبترول المعاش بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
على أن الأمر ليس جديدا ضمن السياق الغربي بوجه عام، إذ عمل أولئك منذ ابتداء عهد الكشوف الجغرافية وتوسعهم خارج نطاق قارتهم، على قمع الآخر بوحشية قاتلة ليستجيب لرغباتهم، ولم يتورع المحتلون الأوائل عن استخدم أبشع الطرق للقضاء على خصومهم، واستعبادهم باستخدام مختلف التبريرات القانونية من وجهة نظرهم، والغريب أنهم لم يرو في ذلك أي جريمة تذكر، ولا يشعرون بعقدة الذنب حتى اليوم ليقوموا بالاعتذار الإنساني من كل الشعوب التي أهلكوها.
في هذا السياق، يخطر في بالي حربهم للصين بهدف فرض تجارة الأفيون المخدر عليهم، وهو أمر تستنكره كل القيم والأخلاق، لكنهم لم يأبهوا لذلك طالما وأنهم غير مستهدفين في حالهم الداخلي. وفي هذا تذكر الوثائق أن الحكومة البريطانية قامت عبر شركة الهند الشرقية التابعة لها بزراعة الأفيون المخدر في المناطق الوسطي والشمالية من الهند، ثم عمدت إلى تصديره للصين، وحين توجه الإمبراطور إلى منعه بسبب انتشار المدمنين في بلاده، قررت بريطانيا إعلان الحرب عليهم بذريعة تطبيق مبدأ حرية التجارة.
هكذا هي المعايير المزدوجة في الذهن الغربي إجمالا، التي ترى القيم من زاويتها، وتنظر للعدالة من جانبها، فما يحقق مصلحتها الاقتصادية، ويوسع من دائرة نفوذ رجال أعمالها ودهاقنة السياسة فيها، فهو عدل وحق، وما يتعارض مع مصلحتها الاقتصادية ويقلص من نفوذ شركاتها الرأس مالية، فهو باطل ومخالف لكل منظومات القيم والأخلاق الإنسانية. والأمثلة على ذلك كثيرة ليس المجال لاستحضارها.
وواقع الحال، فلا يعني القول بما سبق أن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية قد خلتا من نماذج قيمية جميلة، وأنهما لم يطورا من منظومتهما القانونية والحقوقية بشكل عام، لكن ذلك ظل محصورا ببنية الحياة المجتمعية على الصعيد الداخلي، بمعنى أن القيم والعدالة والحقوق تكون متاحة للإنسان في بلدانهم فقط، لكن في خارجها فالأمر مختلف، وهو مرهون بحسب مصلحتها وحاجتها بالدرجة الرئيسة.
أشير إلى أن الأوروبيين لم يرحموا أنفسهم حال احتدام الصراع المسلح بينهم، فأزهقوا أرواح بعضهم بعضا بشكل لا يصدق، إنه التاريخ الذي يصعب نسيانه، وهو الذي سجل قتل أحد عشر مليونا منهم خلال الحروب الأوروبية التي عرفت باسم حرب الثلاثين عاما، وصولا إلى الحرب العالمية الأولى التي قتل فيها قرابة العشرين مليون إنسان، وقتل في الثانية قرابة خمس وثمانين مليون إنسان، وصولا إلى ذبح البوسنيين بدم بارد في أواخر القرن العشرين وأمام نظر كل القوى الأوربية المتشدقة بالعدالة الإنسانية.
ناهيك عن اجتثاثهم كل السكان المحليين في الأراضي الجديدة بأمريكا الشمالية والجنوبية، وفي ذلك قصص لا تصدق، وحيل بشعة استخدموها لتنفيذ مآربهم، علاوة على تجارة الرق التي نفذوها ببشاعة في أفريقيا، حتى قدر عدد الأفارقة الذين تم استعبادهم وبيعهم وإرسالهم إلى الأمريكتين بالملايين عبر الشركات الإسبانية والإنجليزية والتجار الإيطاليين والألمان والبرتغال وغيرهم، وكل ذلك كان عملا مقبولا من وجهة نظرهم، وتصدر له الحكومات الأوربية التصاريح اللازمة، كما يمكن للشعب أن يستثمر أمواله في تلك الشركات، وحين انتهى المقصد والربح المالي بات أمرا محرما، وتم التغافل عنه ودفنه في دهاليز ذاكرتهم.
ختاما، لا أذكر ما كتبت لأقول إننا كأمة عربية ملائكة في ذواتنا، ولكننا حتما بشقينا المسلم والمسيحي أكثر إنسانية من غيرنا، وتحركنا منظومة قيم وأخلاق كريمة، جاء النبي الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام ليتممها، وأجزم أنها مخبوءة في دواخلنا، وأرجو أن نعمل على استعادة بنيانها من جديد، لنحقق باكورة ما نريده من نهضة وتقدم. وليس ذلك بعزيز.
zash113@