باسم سلامه القليطي

إعمار الأوقات

الخميس - 27 أكتوبر 2022

Thu - 27 Oct 2022

من فوائد القراءة، أنك قد تقرأ أحيانا، ما يهز كيانك، ويسلب لبك، ويلفت نظرك، ويفتح بصيرتك على أمور أنت بالتأكيد عرفتها واستوعبتها، لكنك للأسف تناسيتها، أو شغلتك متطلبات الحياة اليومية عن قيمتها وجدواها، ومن ذلك ما قرأته مؤخرا في (سير أعلام النبلاء)، قال عبدالرحمن المهدي: «لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غدا. ما قدر أن يزيد في العمل شيئا». علق الذهبي: «كانت أوقاته معمورة بالتعبد والأوراد».

يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ). علق ابن بطال: «(كثير من الناس) أي أن الذي يوفق لذلك قليل».

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال ملح، هل أوقاتنا معمورة؟ أم أنها بين الضياع والدمار مهدورة؟

وبالإجابة عن هذا السؤال الكبير تتضح الصورة، فإذا لم تكن للإنسان همة عالية ترفعه، وعزيمة قوية تدفعه، وأهداف سامية توجهه، وأوقات عامرة بالخير والفائدة، فما عرف قدر نفسه، وما فهم سر وجوده، فنفس الإنسان إذا عظمت، صغرت في عينه الدنيا، وما تعظم النفس إلا بالإيمان والإحسان وطاعة الرحمن، وكما قيل: من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل.

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه

وأراه أسهل ما عليك يضيع

القراءة في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وسير الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين رحمهم الله، وعظماء الإسلام في كل زمان ومكان، تورث في القلب همة متوقدة، وعزيمة صلبة، وتهذب النفس، وتصفي الروح مما يعلق بها من شوائب، وتطهر العين مما يلوثها من أضواء زائفة. قال بشر بن الحارث: «بحسبك أن قوما موتى تحيى القلوب بذكرهم، وأن قوما أحياء تقسو القلوب برؤيتهم».

قال ابن القيم -رحمه الله- في كتاب (مدارج السالكين) قال الشافعي -رحمه الله-: «صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا بكلمتين، سمعتهم يقولون: الوقت سيف، فإن قطعته وإلا قطعك. ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل».

بين السمو والسقوط، والعلو والهبوط، أوقات تعمر بالخير، وساعات تغتنم بالفائدة، فإذا تبصر الإنسان وتصبر، لان له الصلب، وسهل عليه الصعب، في كتاب (قيمة الزمن عند العلماء) قال الأستاذ (عاصم البيطار) عن إمام الشام في عصره (جمال الدين القاسمي): «باشر التدريس وهو في الرابعة عشرة من عمره، ولم ينقطع عنه حتى اختاره الله إليه، وكان لتلاميذه الكثيرين مجالس مرتبة في المسجد والدار، في الليل والنهار، وهو على ذلك كله ألف وصنف، ولخص ونسق، واستفاد من كل دقيقة من وقته، وقد تحسر مرة وهو واقف أمام مقهى امتلأ بأناس فارغين يزجون الوقت في اللهو والتسلية، فقال لبعض محبيه: آه، كم أتمنى أن يكون الوقت ممن يباع لأشتري من هؤلاء جميعا أوقاتهم».

من الطبيعي أن يختلف العقلاء في كيفية إعمار أوقاتهم، لكنهم جميعا يتفقون على أنها لا تكون أوقاتا معمورة، إلا إذا كانت تحت مظلة الخير والفائدة، قال حكيم: «من أمضى يوما من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أصله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه».