سليمان الهويسين

الجامعات وسوق العمل.. والدور المفقود

الأربعاء - 19 أكتوبر 2022

Wed - 19 Oct 2022

التطور في التعليم الجامعي أمر لازم ولا محيص عنه، بل لا يتصور وجود جامعة ليست متطورة في أنظمتها التعليمية أو غير مواكبة لمستجدات العلوم والابتكارات والاكتشافات العلمية، أو بعيدة عن مسايرة ما أبدعته عقول البشرية في شتى مناحي المعرفة.. الجامعات هي منابع الأفكار الخلاقة، وهي جسور البشرية للعبور نحو المستقبل.

ومن أهم ميادين التجديد والتطوير لدى الجامعات هي الجاهزية لتقديم نتاج فكري نافع وطاقات بشرية مواكبة لاحتياجات سوق العمل وقادرة على تلبية احتياجاته المتعددة والمتباينة والمتفاوتة.. وهذا الأمر -بلا شك- مما تنوء به كبريات المنظومات والأجهزة الحكومية، محليا وإقليميا ودوليا.

ذاك أن طبيعة سوق العمل قائمة بشكل رئيس على سد احتياج المجتمع في مختلف جوانبه، مما يعني التصدي لنطاق عريض من المتغيرات التي تفرضها طبيعة شرائح المجتمع المختلفة باحتياجاتها المتباينة لكل شريحة من تلك الشرائح، هذا بالإضافة إلى التجدد في هذا الاحتياج نفسه، والتغير المطرد فيه لدى كل شريحة.

هذا بالإضافة إلى أن سوق العمل من طبيعته أنه مبادر إلى فتح آفاق جديدة لتحسينات وإضافات مبتكرة في حياة أفراد المجتمع، مما لم يعهدوه سابقا، فيدفع بهم في «موضات» و»ترندات» على شكل ممارسات معيشية مستحدثة وأنماط حياتية غير معروفة لديهم، تحور وتغير من نسق حياتهم المعهود والمألوف لديهم.

هذا كله يجعل مهمة الجامعات في تلبية احتياجات السوق مهمة عسيرة وكؤودة بحق؛ ذلك أن عجلة التسارع في متطلبات السوق متزايدة تباعا، الأمر الذي لا يمكن للجامعات ملاحقته بحكم بنيتها العلمية المنهجية القائمة على التأصيل والتحقق والتجربة والبحث والاختبار، وهي أدوار من طبيعتها الترسل والتريث والحاجة للإنضاج القوي بمرور الوقت.

هنا تقع المفارقة؛ بين الدور المطلوب من الجامعات المستلزم للإيقاع السريع، وطبيعة دور الجامعات المتسم بالتروي والتؤدة. فما الذي يمكن أن يحدث؟

دعونا نفترض ثلاثة افتراضات، وهي كما يأتي:

الافتراض الأول: أن تتماشى الجامعات مع ضغط السوق لتكون متساوقة مع طبيعته المتسمة بالسرعة والتجدد والتحولات المتكررة، وتتناسى حقيقة دورها وفرادة أسلوبها، فما الذي سينتج؟

ستكون لدينا برامج تعليمية تأهيلية متنوعة حديثة، تحمل عناوين براقة، وتحفل بتسويق واسع الانتشار، ولكن في المقابل سنجدها سطحية لا تستند إلى عمق علمي، ولا تمتاز بموثوقية حقيقية، وتفتقر إلى أدنى مستويات الاستحقاق المعرفي.. وسيكون نتاج هذه البرامج كفاءات هشة، ليس لديها سوى معرفة ضئيلة بعناوين ما يدور في واقع الحياة دون أدنى قدرة على فهمه أو تحليله أو تطويره أو تحسينه والإضافة عليه.

ولعل بعض التجارب القائمة حاليا من بعض المنظمات التي قدمت نفسها كجامعات وأكاديميات حديثة تلهث خلف ومضات السوق، قامت ببعض الممارسات التي أظهرتها بشكل براق ولافت وجاذب لكنه كان في غاية الهشاشة العلمية والمتانة المنهجية.. وفي المحصلة النهائية فقد ربحت هذه المنظمات انتشارا لبرامجها في أوساط المتطلعين لتجميع شهادات من هنا وهناك دون امتلاك حقيقي للتمكن التخصصي والتحصيل العلمي، فكانت النتيجة انكشاف ضحالتهم عند أول محك قابلهم فعادوا ناكسين يجرون أذيال الخيبة!!

هذه لقطة واقعية لما يمكن أن يكون عليه الحال حينما تكون الدفة بيد السوق وأربابه وتكون الجامعات أسيرة له.

الافتراض الثاني: على النقيض من السابق، وهو أن تتشبث الجامعات بهويتها ونمطها وتصم آذانها عن هتافات السوق وطلبات المجتمع، وحينها ماذا سيحصل؟

سنجد الكثافة البحثية النظرية التي لا تمت لواقع السوق بصلة، وسنجد إغراقا ما له مثيل في جزئيات متشعبة من فروع العلوم لا يمكن الخروج منها بمنتج حقيقي في واقع الناس، أو تصميم حل يسهم في تحسين حياتهم، أو تشخيص لمعاناتهم، أو انتهاض بأعمالهم نحو الأكمل والأرشد.. ثم ماذا؟ ينفض سامر الحي عن الجامعات وتنفصل عراها عن مجتمعها وتتسع القطيعة بينها وبين سائر منظومات المجتمع -ومن أبرزها سوق العمل-، فتتكرس فكرة التحجيم لدورها، والبحث عن مواد معرفية أخرى أقدر على التناغم والتواصل مع حاجات السوق والمجتمع من بعده.

وهذا له شواهده الموجعة في واقعنا اليوم، فبكل أسف؛ تشخص أمامنا أمثلة هنا وهناك لجامعات تقوقعت على ذاتها، وصمّت آذانها عن الأصوات المستنجدة بها، وتكلست على رأي كادرها التعليمي العتيق وفريق إدارتها التليد، وراحت -تحت لافتة الأصالة- تهشم كل جسور الارتباط بينها وبين ما يريده سوق العمل وما يتطلبه في خريجيها من مهارات وكفاءات.

وبدل أن تكون قضية تلك الجامعات هي تطوير ذاتها لتتبوأ مقعدا مرموقا لها في واقع السوق والمجتمع؛ راحت بدلا عن ذلك تناكف جهات الاختصاص بتوسيع مجالات العمل التي تعمل عليها وتقديم الدعم المادي لها لاستكمال كراريسها البحثية وتكريم منسوبيها وتغطية مستحقاتها!

الافتراض الثالث: أن تتربع الجامعات على قمة المثلث الذي يتشكل من هذه العلاقة.. بتموضع ذكي وحضور رشيق، فكيف يتم ذلك؟

أن تكسر قيد التفكير المنحصر في الحدود الضيقة لهذه الثنائية؛ وتتجاوز أسوارها المتكلسة على الميل لأحد طرفيها إما الأصالة والمتانة العلمية والرصانة المنهجية الدقيقة وإما الحداثة والتجدد والتطور المتسارع والتغير المتواتر.

الجامعات اليوم أصبحت أشبه بالمنظومات المتكاملة أكثر منها بالمنظمات المترابطة؛ بمعنى أنها مجموعة كيانات متناغمة ضمن نطاق متسق بحدود واضحة الأدوار والمسؤوليات والاختصاصات.

الجامعة الأنموذج في واقع الجامعات، هي تلك التي تتحرك من خلال مجموعة أدواتها التدريسية والبحثية والمعرفية والمهارية والتواصلية والتنموية والتشاركية، وتفعل مواردها البشرية والتقنية والعلمية والتكاملية، من خلال مبادرات إبداعية واستثمارية مؤسسية مستدامة؛ تشكل بمجملها تدخلا إيجابيا حقيقيا في المجتمع يأخذه إلى آفاق أرحب وآماد أبعد.

وفيما يتعلق بسوق العمل تحديدا؛ فإن الجامعة الأنموذج تستشرف احتياجات السوق ابتداء على مدى عقد أو عقدين أو أكثر، وتبني بناء على هذا الاستشراف خارطة الاحتياجات وبأولويات واضحة؛ ثم تبتكر في تصميم الحلول العلمية المقترحة لتلبية تلكم الاحتياجات بشكل مطرد يناغم بين الرصانة والعمق المعرفي، والتجاوب الحكيم مع متطلبات السوق وحاجاته.

كما أنها -أي الجامعات- تتنوع في أشكال تجاوبها مع متطلبات سوق العمل ومستجداته من خلال عدة قنوات، أبرزها ما يأتي:

1- مراكز الأبحاث والدراسات، هي مؤسسات تعنى بإنتاج أبحاث ودراسات في مجال محدد أو مجالات مختلفة، وتقوم بذلك من خلال تبعيتها لجهة ما أو بصفة مستقلة.

وتستفيد الجامعات من مراكز الأبحاث في هذا الصدد من خلال مسح واقع التعليم الجامعي المحلي، والوقوف على مستوى ما يقدمه من برامج ومعارف، والمقارنة بينها وبين اتجاه سوق العمل ومدى كفاءتها في تقديم كوادر مناسبة لحاجة السوق، كما أن هذه المراكز تقوم بدور استطلاع أبرز التجارب العالمية الرائدة والممارسات الدولية الناضجة، وتعمل على تكييفها ومواءمتها بما يتفق واقع المجتمع واحتياجه. وهي بلا شك أكثر مرونة في التجاوب مع هذا الدور مما لو أنيط بالجامعة ككل.

2- مراكز الإرشاد المهني، هي مراكز تقدم خدماتها بشكل عام لعموم المجتمع، وللطلاب والخريجين حديثا بشكل رئيس، في مجال اختيار التخصص الأكاديمي، والاستعداد لسوق العمل، وتحديد المسار المهني، واكتساب أساليب النمو المهني.

وهذه المراكز تشكل إضافة جوهرية للجامعات اليوم في مواكبة حاجة السوق وتأهيل كوادرها على تحقيق الجاهزية المطلوبة للدخول إلى السوق والمنافسة فيه واقتناص الفرص المميزة، خلال خدمات جلسات الإرشاد الفردي أو الجماعي، والورش التدريبية في مهارات دخول سوق العمل، والمقاييس الشخصية الموجهة المطبقة في هذا المضمار.

3- مراكز التعلم المستمر، هي مراكز تعنى بتقديم فرص التعليم لمختلف فئات المجتمع ممن تقدم بهم العمر دون الحصول على درجات علمية أو لمن يرغبون بالحصول على مؤهلات أكاديمية في تخصصات جديدة خلاف ما لديهم من مؤهلات.

وتكون البرامج -عادة- في مراكز التعلم المستمر على مستوى أقل في جودة العملية التدريسية من كليات الجامعة ومعاهدها التخصصية، تبعا لواقع مريديها وخصوصية قاصديها.

والجامعات بصفتها قبلة للراغبين في التعلم النظامي والتحصيل الأكاديمي، لديها القدرة على توظيف هذه المراكز في التركيز على حاجات السوق الحالية والمستقبلية من خلال ما لديها من مؤشرات ودلالات على اتجاهات الطلب في سوق العمل، وبما تمتلكه من علاقات مع المنظمات التعليمية الأخرى التي تمتلك برامج أكاديمية مطلوبة تستطيع الجامعة أن توظف هذا مع ذاك للخروج بالنتيجة المنشودة.

4- مراكز الخدمة المجتمعية، للجامعة –أي جامعة– ثلاث وظائف تتمثل في التعليم والبحث وخدمة المجتمع، وتأتي مراكز الخدمة المجتمعية لتحقيق هذا الدور بشكل واقعي، عبر تسخير إمكانات ومقدرات الجامعة في زيادة جودة حياة أفراد المجتمع في شؤون متعددة.

ويمكن لهذه المراكز أن تسهم في تعزيز دور الجامعة في زيادة جاهزية كوادرها الخريجين لدخول سوق العمل من خلال خدمات هذه المراكز المتمثلة في المعارض التفاعلية، واللقاءات التوعوية، والجلسات التثقيفية مع أصحاب الاختصاص، والورش التطبيقية، وحلقات النقاش، ومساحات القراءة، ونوافذ الإرشاد المباشر، ومبادرات التطوع، وغيرها من أشكال الأنشطة التي تقدمها هذه المراكز التي يمكن لها أن تحدث فرقا واضحا لدى روادها.

5- مراكز الشراكات والتحالفات، هي إحدى أشكال الكيانات التنفيذية للجامعات والتي تقوم من خلالها بعقد الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، وتمثل الذراع التواصلي بين الجامعة وسائر مكونات المجتمع ذات التلاقي معها في مجال اهتمام مشترك.

تقوم هذه المراكز بأعمال التواصل مع منظمات المجتمع لاسيما الكبرى منها في مجالات المتنوعة، لإقامة برامج علمية أكاديمية أو تنفيذية في مجال كل منظمة من تلك المنظمات، كما تقوم بإطلاق الكراسي البحثية التخصصية المدعومة من المنظمات المعنية بأعمال الكراسي وتنفيذ برامج التدريب التعاوني المشترك. وبالتالي تستطيع الجامعات من خلال مراكز الشراكات أن تبني لها جسورا ممتدة وحيوية مع مختلف مجالات العلوم والمعارف، وتبقى على مسافة قريبة منها يمكن لها من خلالها التحرك في هذا المجال المعرفي بسلاسة.

6- مراكز الخريجين، هي مراكز تواصل ودعم لخريجي الجامعات، تهدف إلى تعزيز الانتماء والتواصل بين الجامعة وخريجيها، وبين الخريجين أنفسهم والاستفادة من خبراتهم في تطوير جامعتهم.

والجامعات حينما تنظر لهذه المراكز على أنها قناة فعالة لقياس مستوى خريجيها وكيف هو تموضعهم في رقعة المنافسة على الفرص في سوق العمل بين نظرائهم من خريجي الجامعات الأخرى، وكذلك كم هي نسبة الواعدين الذين تسنموا مواقع مميزة في عالم الأعمال وقيادة السوق، حينها تستطيع الجامعات أن تقدّر بشكل موضوعي مستواها الحقيقي وما حجم التطور المطلوب منها العمل على تحقيقه.

إذن فالجامعات وخلال أذرعها -الآنف ذكرها- تستطيع أن تتربع على قمة الفنار، وترسم التوجه المجتمعي عموما، وتقدم الحلول الفعالة والمواكبة لكافة احتياجات سوق العمل، وتقدم كوادر مؤهلة محفزة قادرة على الانخراط المباشر السلس مع عجلة الأعمال في سوق العمل.

بل إن الجامعات والحالة كما سبق ستتجاوز ذلك كله لتكون هي المستشرف لتوجهات السوق والمؤثر الأقوى على حركته وانطلاقته واتجاهه، وحينها لن يكون لتلكم الفجوة المضنية -فجوة نقص كفاءة الخريج عن متطلبات سوق العمل- أي وجود بمشيئة الله.

ونحن اليوم في ظل التطور الذي نشهده في واقع التعليم الجامعي، وهذا التنافس المبهج بين جامعات المملكة في الرقي بمستوى عمليتها التعليمية وكفاءة منسوبيها، وما صاحب ذلك من مبادرات نوعية أطلقتها وزارة التعليم ممثلة بمجلس شؤون الجامعات، ذلك كله يأتي ضمن هذا السياق الذي سيؤول بإذن الله إلى ازدهار شامل ورفعة مطردة ونمو متواصل لمملكتنا الحبيبة.

SulaimanFH@