صهيب الصالح

العالم الحر يعلق آماله ببوتين

السبت - 08 أكتوبر 2022

Sat - 08 Oct 2022

من المهم التأكيد على أن هذا المقال لا يندرج ضمن شرقية الاصطفافات ولا غربيتها، وكاتب المقال يعرف تماما أن روسيا امتصت دماء السوريين كما امتصها السوريون أنفسهم، ولكنه يعرف أيضا أن مقاله هذا لن يغير من سلوك بوتين ولن يبعث أطفال سوريا إلى الحياة مجددا، كما أنه لن يعيد إعمار دمشق ولا حتى بزهرة واحدة، وما جاء هذا التأكيد إلا بسبب ظاهرة التصنيف التي اجتاحت الجماهير العربية أولا، ثم وصلت هذه الأيام إلى طبقة من المثقفين وقادة الرأي، وهو تصنيف يقوم على أن الانجذاب نحو ما تحدثه روسيا من تغيير لفهم وتفسير القواعد الدولية، أو التأييد لعمليتها العسكرية في أوكرانيا جريمة؛ بالنظر -فقط- إلى الدور الروسي في سوريا، بينما مناصرة أوكرانيا اقتربت من أن تصبح بندا ملزما في لائحة القومية العربية.

وهذه الحجة القومية تلتقي مع ما نعته بوتين في خطابه الأخير قبل نحو أسبوع أمام الجمعية الفدرالية الروسية بـ»المعايير المزدوجة أو الثلاثية»، عندما تتمسك هذه الأصوات بالدم السوري وتضرب عرض الحائط بقية الدماء البريئة التي سالت منذ عقود على أيدي العالم الغربي، وتتناسى مثلا إرسال القوات الأوكرانية قوة عسكرية إلى مدينة الكوت العراقية قوامها 1650 جنديا إبان الغزو الأمريكي بحسب - أسوشييتد برس -، وإن كانت هذه القوة قد اختصت بالرصد الراداري والأعمال الدفاعية ضمن ما يسمى قوات حفظ السلام، إذ يقول المنطق بأن القومية يجدر بها أن ترفض كافة أشكال التدخلات العسكرية ما لم تكن عروبية الهوى والزناد والمصلحة، وفي الحقيقة سنجد هذا المشهد يتكرر كلما كان للعرب خيط متصل في قضية ما؛ لكون العرب هم هكذا يحبون اتهام الجميع كما يحبون التصفيق للجميع في نفس الوقت، المهم أن عامل «الجميع» موجود دائما في مقابل العرب.

كانت هذه المقدمة مهمة للدخول إلى فهم وتحديد المبدأ العربي من هذه الحرب، فما تحدثه روسيا هو فعلا تحول حاسم وانفلاق في مسار العلاقات الدولية لا ينبغي أن تفوته مناصرة طرف على آخر بحجج واهية ليس لها أي صلة بالحرب نفسها ولا بنتائجها المحتملة، وقد تكون هذه الحجج ناجمة في الأصل عن دعاية غربية غير مباشرة نتيجة الهيمنة على التكنولوجيا ووسائل الاتصال، فتشربتها الجماهير ونقلتها أخيرا إلى أشخاص كان ينتظر منهم السؤال كثيرا عن هذه الحرب وما يصحبها وما قد تؤول إليه مصائرنا بعدها، ثم تقديم تفسيرات غير منحازة أو متأثرة لا بهذه الدعاية ولا بتلك، بل لابد وأن تردع الدعايات كاملة وتغذي الجماهير، وربما صناع القرار السياسي في العالم العربي، تغذية سياسية صحية الفهم والتفسير، والسؤال هنا يحوم حول مقاس حرية واستقلال العالم العربي ومفكريه أمام حركة الاستقطاب العالمي في أثناء هذه الحرب، وفي نسبيتهما إلى المعايير الدولية السائدة في السياسة والاقتصاد، وفي الثقافة والقيم، وفي الحقوق والحريات أيضا، فمن كان يرى في نفسه كيانا حرا عليه أن يعلق آماله بخطاب بوتين؛ ليس حبا في الاصطفاف أو تشفيا وانتقاما من العالم الغربي، بل لأن الاتجاه نحو عالم حر تستقل فيه معاييرنا وتتحقق فيه ذواتنا الإنسانية كان قد مر من بين شفتي بوتين في خطابه الأخير.

لقد أغلق بوتين في خطابه ساحة المعركة العسكرية في أوكرانيا بعد إعلانه ضم الأقاليم الأربعة، وترك الغرب يغضب ويذعر ويتوعد بسيل من العقوبات كما يشاء، فهو يعي جيدا أن هذا العالم الذي يرفض اليوم سلوكه بتغيير حدود بلاده بالقوة هو نفسه العالم الذي غير حدود بلاده بالقوة أيضا قبل 30 عاما، لكنه فتح ساحات لحروب أخرى مفتوحة الزمن والمواجهة تعلي من شأن القيم والثقافة، فعندما يقول «لقد قرر الغرب، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، أن على العالم أن يتحمل إملاءاتهم إلى الأبد... «إن الغرب مستعد لتخطي كل شيء من أجل الحفاظ على النظام الاستعماري الجديد الذي يسمح له بالتطفل» فهو هنا يربط الآمال الحرة فيما قد ينجح في تحقيقه بعدما تبنى أن يكون معقلا عالميا للدفاع عن تعدد القيم الإنسانية ضد أحادية الانحلال الغربي وعولمته واستعماره، إذ نجح في إظهار عداوة العالم الغربي لاستقلال الدول وقيمها التقليدية وثقافاتها الأصيلة، وما أراد بوتين قوله باختصار هو أنك إن وقفت ضد دعوات روسيا هذه فأنت قد تخليت عن سيادتك إلى العالم الغربي وأصبحت ضمن ما وصفه وصفا دقيقا ومخيفا أيضا بـ»حشد العبيد بلا روح».

كان بوتين لاذعا في نقده للممارسات الغربية، وقد أعاد إلى الأذهان خطابه التاريخي أمام دول مجموعة منتدى دافوس الاقتصادية في عام 2007 قبيل دخوله في حرب على جورجيا انتهت باختفاء حليف الولايات المتحدة الرئيس الجورجي السابق ميخائيل ساكاشفيلي، وخطابه الآخر الذي وبخ فيه أوروبا في المناسبة نفسها من العام الماضي 2021، وهو بذلك يضع نفسه محل التأسيس للموقف الرئيس الذي يمكن صياغته في السؤال: ما الذي يجعل القيم الغربية السائدة المبررة مبررة؟ فإذا فكرنا عميقا في إجابة منطقية، سندرك البون الشاسع بين قيمنا الحقيقية والقيم الغربية السائدة، وسندرك أيضا أن هذا الخطاب لم يكن أبدا بغرض إيجاد الدعم لحربه في أوكرانيا، بل هو فاتحة لتصحيح مفاهيمي كبير، موجه بالدرجة الأولى إلى إنهاض الأمم التي تتفق مع هذا الاتجاه، بمن فيهم نحن وأتباع الأحزاب المحافظة في العالم الغربي أيضا، بل وحتى مسألة ضم الأراضي إلى بلاده جعل منها بوتين وسيلة لاختبار القانون الدولي عندما بارز مبدأ سيادة الدول بحق تقرير المصير.

بوتين ليس رسول سلام كما أن العالم الغربي هو الآخر ليس في سلوكه ما يدعو للاطمئنان والاستقرار قبل السلام؛ لذا يجدر بنا كعرب قبل أن ننجرف مثلا في التفكير خلف الحقوق والحريات في بلدان أخرى وأن نسأل عن حقوقنا وحرياتنا نحن، هل يعرفها العالم الآن ويعترف بها كما نحبها ونفهمها؟ فمحاولة الإجابة على سؤال كهذا تجعلنا نتخيل شكل العالم بعدما يتحقق لبوتين تحريره من القواعد الغربية المهيمنة، ولعل من المناسب هنا استدعاء تأكيد ولي العهد لبايدن أثناء قمة جدة الأخيرة أن لكل دولة قيما مختلفة يجب احترامها؛ لهذا ولكي يصبح العالم حرا بالمطلق وليس في مجرد حدود المعيار الغربي، عليه الوقوف إلى جانب دعوات بوتين لتفكيك الغول الغربي وتدشين عصر تعدد الأنماط في دائرة من القيم والأخلاقيات، ومن هنا تبدأ عملية الاستقلال والبناء العربي، من هذه المهمة التاريخية النبيلة.

@9oba_91