«أم محمد»
السبت - 08 أكتوبر 2022
Sat - 08 Oct 2022
كانت ولا زالت ابنة عمي التي تبلغ من العمر الخامسة والستين عاما، يطلق عليها طبيبة العائلة، رغم أنها لم تحصل إلا على شهادة الابتدائية أو ربما وصلت للصف الخامس وودعت مدرستها لبيت زوجها، رغم ذلك فهي ضليعة في فك شفرات أمراضنا، وحتما كنا نركض هلعا لها، لتجلب لنا «أم محمد» الوصفة الطبية التي تتناسب مع أوجاعنا وآلامنا، الجميل أن «أم محمد» كانت تظل على تواصل مع مريضها حتى تتأكد من شفائه، دائما كانت تقول عن نفسها «طبيبة من غير شهادة»، وترتفع ضحكاتها إلى السماء، وكنت أنا أو أي من أفراد عائلتي، نسعد على الدوام بزيارتها لنا، بل ونحن في أقل من عمرنا هذا، ما أن نعلم أن «أم محمد» ستزورنا حتى يحتفل البيت كله، للدرجة التي تجعلنا ننتظرها عند الباب فرحا بوصولها.
اعتادت على ألا تأتي لزيارتنا خالية الوفاض، كانت تجلب الشاي والقهوة والحلوى والعلكة التي نحبها والبطاطس المقرمشة، لا يمكن لي أن أنسى أنها كانت تمدني بطاقة من الفرح، فما أن تدخل البيت حتى يزدهر بهجة وفرحا، حتى عاملات البيت ما أن يروا «أم محمد» حتى تطير قلوبهن من السعادة، بسبب حلو لسانها وأحاديثها وطريقة سردها للقصص، وتملك إلى جانب مهارة حلو الكلام القدرة على التعامل مع الصغير والكبير، إذن لا تسألني لماذا نحبها كل هذا الحب؟
ولأننا نتحدث عن الأمراض، ثمة تساؤل يشغلني وهو هل لا زلنا منقسمين بين اللجوء للطبيب صاحب الشهادة، أم أننا نفضل أصحاب المواهب والأطباء الشعبيين؟
في حياتي التي لا أستطيع قياسها، فكثيرا من الأوقات أنسى عمري الحقيقي وهذا أمر لا يمكن لي أن أكذب فيه، وبين كل ما كتبته هذه المرة توقفت طويلا أمام مرضين لم أجد لهما شفاء عاجلا، ربما المرض الأول لم أعاني منه، لكني كنت شاهدة على معاناة المئات بل الآلاف الذين يعانون منه، أما المرض الثاني فقد عايشته أنا شخصيا لفترة من الوقت، وبعد ذلك عايشه أحد أقرب الناس إلى حياتي.
المرضان اللذان أقصدهما هما الفقر والاكتئاب، وقد قال عمر الفاروق رضي الله عنه، «لو كان الفقر رجلا لقتلته»، مع ملاحظة أنني وأنا أبحث عن التحقق من المقولة عبر العم قوقل، كان هناك جدال واسع بأن القائل هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وليس الفاروق.
ومن الجدال أنتقل إلى ما قاله طبيب الأمراض النفسية، الدكتور الراحل عادل صادق، حينما قال عن مرض الاكتئاب: «أكثر المرضى الذين أشفق عليهم، هم الذين يعانون من مرض الاكتئاب، فهو من أكثر الأمراض النفسية الذي يذهب بك إلى المقبرة».
قرأت الكثير من الكتب عن الاكتئاب، حيث أعيش مع شخص يعاني من هذا المرض، ولم أجد أشد مرارة من أن تعيش مع أحدهم وتراه يعاني بشكل يومي، ففي كل دقيقة وكل ثانية من حياته، يفتقد إلى لذة الحياة، وكثيرا من الأحيان أقبض على نفسي متلبسة بالبكاء بسبب أوجاع هذا الشخص، وكيف أنه يحاول جاهدا الألم واضطراب المزاج الذي يسبب شعورا متواصلا من الحزن، وفقدان المتعة، والاهتمام بالأمور العادية، إلى جانب نقص في التركيز، وقد يكون مصحوبا بالشعور بالذنب، وعدم الأهمية، ونقص في تقدير الذات، على الأخص إذا ما علمنا أن هذا المرض يؤثر في المشاعر، والتفكير، والتصرفات.
كنت أنتظر «أم محمد» لتقوم بزيارتنا، فهي لا تستطيع أن تعالج الاكتئاب، لكننا نشعر بأن بإمكانها أن تقدم ما يمكنها تقديمه، فهي طبيبة العائلة، وكانت تحرص على علاج المكتئب، بمحاولة التقرب منه وتذكيره بالماضي الجميل، والحياة الأجمل الآن، وتكثر في ذكر مآثر الشخصيات التي انتقلت إلى رحمة الله، ولا تخرج من البيت إلا بعد أن تتسع أسارير المكتئب، وتسمع قهقهاته وضحكاته.
كل ما أقوله أن الأدوية بالتأكيد تشكل فائدة، لكن الاهتمام بالمريض وفعل المستحيل لإسعاده، يشعرك بالكثير من الرضا.
اعتادت على ألا تأتي لزيارتنا خالية الوفاض، كانت تجلب الشاي والقهوة والحلوى والعلكة التي نحبها والبطاطس المقرمشة، لا يمكن لي أن أنسى أنها كانت تمدني بطاقة من الفرح، فما أن تدخل البيت حتى يزدهر بهجة وفرحا، حتى عاملات البيت ما أن يروا «أم محمد» حتى تطير قلوبهن من السعادة، بسبب حلو لسانها وأحاديثها وطريقة سردها للقصص، وتملك إلى جانب مهارة حلو الكلام القدرة على التعامل مع الصغير والكبير، إذن لا تسألني لماذا نحبها كل هذا الحب؟
ولأننا نتحدث عن الأمراض، ثمة تساؤل يشغلني وهو هل لا زلنا منقسمين بين اللجوء للطبيب صاحب الشهادة، أم أننا نفضل أصحاب المواهب والأطباء الشعبيين؟
في حياتي التي لا أستطيع قياسها، فكثيرا من الأوقات أنسى عمري الحقيقي وهذا أمر لا يمكن لي أن أكذب فيه، وبين كل ما كتبته هذه المرة توقفت طويلا أمام مرضين لم أجد لهما شفاء عاجلا، ربما المرض الأول لم أعاني منه، لكني كنت شاهدة على معاناة المئات بل الآلاف الذين يعانون منه، أما المرض الثاني فقد عايشته أنا شخصيا لفترة من الوقت، وبعد ذلك عايشه أحد أقرب الناس إلى حياتي.
المرضان اللذان أقصدهما هما الفقر والاكتئاب، وقد قال عمر الفاروق رضي الله عنه، «لو كان الفقر رجلا لقتلته»، مع ملاحظة أنني وأنا أبحث عن التحقق من المقولة عبر العم قوقل، كان هناك جدال واسع بأن القائل هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وليس الفاروق.
ومن الجدال أنتقل إلى ما قاله طبيب الأمراض النفسية، الدكتور الراحل عادل صادق، حينما قال عن مرض الاكتئاب: «أكثر المرضى الذين أشفق عليهم، هم الذين يعانون من مرض الاكتئاب، فهو من أكثر الأمراض النفسية الذي يذهب بك إلى المقبرة».
قرأت الكثير من الكتب عن الاكتئاب، حيث أعيش مع شخص يعاني من هذا المرض، ولم أجد أشد مرارة من أن تعيش مع أحدهم وتراه يعاني بشكل يومي، ففي كل دقيقة وكل ثانية من حياته، يفتقد إلى لذة الحياة، وكثيرا من الأحيان أقبض على نفسي متلبسة بالبكاء بسبب أوجاع هذا الشخص، وكيف أنه يحاول جاهدا الألم واضطراب المزاج الذي يسبب شعورا متواصلا من الحزن، وفقدان المتعة، والاهتمام بالأمور العادية، إلى جانب نقص في التركيز، وقد يكون مصحوبا بالشعور بالذنب، وعدم الأهمية، ونقص في تقدير الذات، على الأخص إذا ما علمنا أن هذا المرض يؤثر في المشاعر، والتفكير، والتصرفات.
كنت أنتظر «أم محمد» لتقوم بزيارتنا، فهي لا تستطيع أن تعالج الاكتئاب، لكننا نشعر بأن بإمكانها أن تقدم ما يمكنها تقديمه، فهي طبيبة العائلة، وكانت تحرص على علاج المكتئب، بمحاولة التقرب منه وتذكيره بالماضي الجميل، والحياة الأجمل الآن، وتكثر في ذكر مآثر الشخصيات التي انتقلت إلى رحمة الله، ولا تخرج من البيت إلا بعد أن تتسع أسارير المكتئب، وتسمع قهقهاته وضحكاته.
كل ما أقوله أن الأدوية بالتأكيد تشكل فائدة، لكن الاهتمام بالمريض وفعل المستحيل لإسعاده، يشعرك بالكثير من الرضا.