يوم تغير كل شيء في داخلي
الثلاثاء - 23 أغسطس 2016
Tue - 23 Aug 2016
كنت في السنة الأولى متوسط.. وكانت الليلة الأخيرة في رمضان قبل ليلة العيد.. أثناء الإفطار قال الوالد رحمه الله «بعد الفطور روح أنت وأخوك اشتروا لكم صنادل من البلد».. وهي نوع من الأحذية لا يسع الكثيرين شراؤها تلك الأيام إلا في العيد.. ذهبت وأخي الذي يكبرني مباشرة حيث كنا نحن أكبر الأبناء.. ركبنا خط البلدة (ميكروباص للنقل العام) وذهبنا إلى البلد.. اشترينا الصنادل وعدنا والفرح بتباشير العيد يغمرنا..
لم يكن هناك الاكتظاظ السكاني الحالي ولم تكن الطرق بازدحام اليوم. مع إقامة صلاة العشاء كنا قد وصلنا البيت. استقبلتنا أمي حفظها الله وهي مبتسمة لما رأت علينا من الفرح. قالت «هيا عيالي الله يخليكم اتوضوا وألحقوا الصلاة في المسجد». توضأنا بسرعة وركضنا نحو المسجد. ما إن أقبلنا على المسجد إلا وكانت قد قضيت الصلاة.
كان رجال الهيئة قد انطلقوا من عند المسجد يمسكون بكل من كان في الشارع ومن ضمنهم أنا وأخي المتجهين للمسجد للحاق بالصلاة وأخذونا ومن أمسكوهم معنا إلى مركز الهيئة .. كنا حوالي الخمسة عشر شخصا، أنا وأخي الأطفال الوحيدين بينهم. أقسمنا لهم مرارا وتكرارا أننا كنا متجهين للمسجد لأداء الصلاة. لم يعيرونا أدنى اهتمام. كانوا يصرخون فينا أن نصمت.
في المركز أمر الشيخ أحدهم بجلد كل منا عشر جلدات بالخيزران على مؤخرته. جاء دور أخي قبلي وكان كلما جلده رجل الهيئة انحنى للأمام ليمتص الثوب وقع الخيزران. كان الرجل يبتسم من حركة أخي. ثم جاء دوري.
بدأ بجلدي. كان الدم يغلي في عروقي من التسلط والظلم والمهانة. صرخ أخي «انحني. انحني. لمن يضربك انحني على قدام خليها تروح في الثوب». لم أكن أسمعه. كنت في عالم آخر. تسمرت عيناي على جلادي.
استمر في جلدي. غابت الابتسامة عن وجهه. شعر بغيظي. اهتز الرجل أمام طفل. شعرت بيده تتراخى. أطلقني قبل أن يكمل العشر جلدات. صرخ فينا الشيخ «يالله روحوا بيتكم ومرة ثانية لا تتأخروا عن الصلاة». التزمت الصمت ورمقته بنظرة ملؤها الاحتقار. قال له أخي «إن شاء الله. إن شاء الله» وأمسك بيدي وسحبني إلى خارج المركز.
سرنا نحو البيت في الأزقة. حاول أخي ضاحكا أن يخفف ما بي وظل يذكر مواقف جلد بعض ممن كانوا معنا وجدها مضحكة. بقيت صامتا. شعرت بالغبن والقهر وقلة الحيلة. كنا أكثر قليلا من الكلاب، وأقل كثيرا من البشر. واصلنا السير ثم توقفت فجأة. جلست القرفصاء. أسندت ظهري على حائط حجري لأحد المنازل في حينا. وضعت وجهي بين كفيّ، ثم انفجرت. بكيت وبكيت وبكيت. كنت أنتحب من أعماقي بحرقة وبصوتٍ عالٍ.
تفجر كل شيء بداخلي. كيف يجلدونني؟ من هم؟ وبأي حق؟ ولماذا؟ نحن لم نسرق. لم نكذب. لم نؤذ أحدا. لم نخطئ على أحد.
لماذا؟ أمن أجل حرصنا على رضى أمي وأبي نجلد؟ أمن أجل الصلاة في المسجد نجلد؟ ومن غريب؟ ونحن أطفال؟ بمن نحتمي؟ وإلى من نلتجئ؟ لماذا نمر بكل هذا الرعب؟ كنا متجهين للمسجد. أقسمنا لهم بذلك. لماذا لم يصدقونا؟ هل هناك من يقسم وهو كاذب؟ أدركت يومها فقط أنه بالإمكان أن يقسم المرء كاذبا.
أشفق أخي على حالي. اقترب مني. ربت على كتفي وجلس بجانبي صامتا. غاب صوتي وظل دمعي ينهمر. منذ ذلك اليوم تغير كل شيء في داخلي.
[email protected]
لم يكن هناك الاكتظاظ السكاني الحالي ولم تكن الطرق بازدحام اليوم. مع إقامة صلاة العشاء كنا قد وصلنا البيت. استقبلتنا أمي حفظها الله وهي مبتسمة لما رأت علينا من الفرح. قالت «هيا عيالي الله يخليكم اتوضوا وألحقوا الصلاة في المسجد». توضأنا بسرعة وركضنا نحو المسجد. ما إن أقبلنا على المسجد إلا وكانت قد قضيت الصلاة.
كان رجال الهيئة قد انطلقوا من عند المسجد يمسكون بكل من كان في الشارع ومن ضمنهم أنا وأخي المتجهين للمسجد للحاق بالصلاة وأخذونا ومن أمسكوهم معنا إلى مركز الهيئة .. كنا حوالي الخمسة عشر شخصا، أنا وأخي الأطفال الوحيدين بينهم. أقسمنا لهم مرارا وتكرارا أننا كنا متجهين للمسجد لأداء الصلاة. لم يعيرونا أدنى اهتمام. كانوا يصرخون فينا أن نصمت.
في المركز أمر الشيخ أحدهم بجلد كل منا عشر جلدات بالخيزران على مؤخرته. جاء دور أخي قبلي وكان كلما جلده رجل الهيئة انحنى للأمام ليمتص الثوب وقع الخيزران. كان الرجل يبتسم من حركة أخي. ثم جاء دوري.
بدأ بجلدي. كان الدم يغلي في عروقي من التسلط والظلم والمهانة. صرخ أخي «انحني. انحني. لمن يضربك انحني على قدام خليها تروح في الثوب». لم أكن أسمعه. كنت في عالم آخر. تسمرت عيناي على جلادي.
استمر في جلدي. غابت الابتسامة عن وجهه. شعر بغيظي. اهتز الرجل أمام طفل. شعرت بيده تتراخى. أطلقني قبل أن يكمل العشر جلدات. صرخ فينا الشيخ «يالله روحوا بيتكم ومرة ثانية لا تتأخروا عن الصلاة». التزمت الصمت ورمقته بنظرة ملؤها الاحتقار. قال له أخي «إن شاء الله. إن شاء الله» وأمسك بيدي وسحبني إلى خارج المركز.
سرنا نحو البيت في الأزقة. حاول أخي ضاحكا أن يخفف ما بي وظل يذكر مواقف جلد بعض ممن كانوا معنا وجدها مضحكة. بقيت صامتا. شعرت بالغبن والقهر وقلة الحيلة. كنا أكثر قليلا من الكلاب، وأقل كثيرا من البشر. واصلنا السير ثم توقفت فجأة. جلست القرفصاء. أسندت ظهري على حائط حجري لأحد المنازل في حينا. وضعت وجهي بين كفيّ، ثم انفجرت. بكيت وبكيت وبكيت. كنت أنتحب من أعماقي بحرقة وبصوتٍ عالٍ.
تفجر كل شيء بداخلي. كيف يجلدونني؟ من هم؟ وبأي حق؟ ولماذا؟ نحن لم نسرق. لم نكذب. لم نؤذ أحدا. لم نخطئ على أحد.
لماذا؟ أمن أجل حرصنا على رضى أمي وأبي نجلد؟ أمن أجل الصلاة في المسجد نجلد؟ ومن غريب؟ ونحن أطفال؟ بمن نحتمي؟ وإلى من نلتجئ؟ لماذا نمر بكل هذا الرعب؟ كنا متجهين للمسجد. أقسمنا لهم بذلك. لماذا لم يصدقونا؟ هل هناك من يقسم وهو كاذب؟ أدركت يومها فقط أنه بالإمكان أن يقسم المرء كاذبا.
أشفق أخي على حالي. اقترب مني. ربت على كتفي وجلس بجانبي صامتا. غاب صوتي وظل دمعي ينهمر. منذ ذلك اليوم تغير كل شيء في داخلي.
[email protected]