خضر عطاف المعيدي

التربية غير المباشرة

الاحد - 02 أكتوبر 2022

Sun - 02 Oct 2022

الحديث عن التربية أشبه بالحديث عن الشمس، فقربها لهيب يضر بالإنسان وبعدها زمهرير يؤذي الإنسان. إن التربية أمر جدير بالاهتمام لا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه شركاء التربية وقنواتها المشاركة للبيت والتي قد تتفوق عليه أحيانا؛ فالمدرسة تربي والحي يربي والنادي يربي والتلفاز يربي ولوسائل التواصل الاجتماعي نصيب الأسد: Lion’s Share من التربية. والحديث عن التربية لا يعني دائما أنها تتخذ مسارا صحيحا فليست التربية هي التقويم الصحيح للسلوك أو تعزيزه بل قد تتخذ أشكالا أخرى تضر بالقيم الأساسية للمجتمع وعرفه ولكنها تسمى لدى من يضخها في عقول الأفراد بانها «تربية». إن التربية بالمختصر - ووفقا لمدارسها المتعددة - تقوم على أربع قيم أساسية: تزويد بمفاهيم، تكوين ميول، ترسيخ اتجاهات، إنتاج سلوك. وأي خلل في هذه الأقطاب الأربعة أو إحداها يؤدي إلى شلل في السلوك يتحمل المجتمع أثره، وكلما انحطت التربية وتردت الأخلاق دفع صاحب المبادئ والأخلاق ضريبة إزاء ذلك.

وفي خضم هذه الأمواج التي أصبحت تسيطر على الجيل من كل حدب وصوب أصبح دور التربية في المنزل مهزوزا بل وما قد تقدمه الأسرة من قيم تربوية تشل وظيفته القنوات والوسائل الأخرى المهيمنة على المجتمع. وفي الضفة الأخرى نجد أيضا أنه حتى من يتولى أمور التربية لأبنائه إنما يكون ذلك وفق ما تربى هو عليه ناسيا اختلاف البيئة ونمط الحياة وتغير الأجيال فتفشل بذلك تربيته، بل والبعض يظن بأن التربية إنما تكون وفق النمطية القديمة «افعل ولا تفعل» وهي إن كانت تجدي مع أفراد ما فهي لا تجدي مع الكثير.

ولقد ذكر الدكتور التكريتي في كتابه الجميل (آفاق بلا حدود) بأن «المراهق بحاجة لمن يفهمه لا لمن يفهّمه»، ولقد اختصر التكريتي الكثير بهذه المقولة. والجدير بالذكر هنا بأن الدكتور Dyer قد أورد في كتابه الجميل (ماذا تريد لابنك) - والذي لم يحظ بالترجمة للعربية - «لا تعامل طفلك بأنه آلة تستجيب للأوامر، فان استجاب لك ظاهريا سيبقى بداخله رفضا ثابت يتزايد مع الأيام حتى يصبح مع مرور الوقت بؤرة للتمرد». إذن ما الحل الأسلم والأسلوب الأمثل للتربية؟

إن التربية غير المباشرة قد أثبتت فعاليتها وهي بشكل مبسط.. دع الطفل والمراهق يشاهدك في أحسن أحوالك دون تمثيل أو تزييف لواقعك؛ فالطفل الذي ينشأ في بيت به مكتبة وأب أو أم ملازمان للكتاب سينشأ محبا للقراءة ولو لم تحببه في ذلك لأن الملاحظة المجردة للسلوك أكثر انغماسا في الذهن من المفردات والنصائح. إن الطفل الذي ينشأ في أسرة لا تستعمل الجوال إلا للاتصال فقط يجعله يعلم علم اليقين بأن الجوال ما هو سوى أداة وليس ركنا من أركان الحياة والعكس صحيح.

إن صدر من طفلك سلوك غير سوي لا تقم باللوم بل بالحوار عن أسباب السلوك وما النتائج المترتبة على ذلك، لأن الحوار سيجعل طفلك أكثر تفتحا للحوار معك مستقبلا ولن يجعل بينك وبينه حاجز، وإن قام طفلك -مثلا- بإتلاف شيء ما في المنزل عن عمد فلا تعاقبه جسديا بل عاقبه بأخذ أحب شيء إليه من الألعاب وأبعدها عنه لفترة ليعلم قيمة الفقدان وإن بادر بالاعتذار -وسيفعل لا محالة- فأعد إليه لعبته لكن تجنب أن تهدده بأنه إن كرر ذلك سيتم معاقبته ولكن الزم الصمت لأنه يعلم نتائج فعله دون التذكير ولأن التذكير يفعّل سلوك التمرد.

أخيرا كما يقول أرسطو بأن الطفل يولد: tabula rasa «صفحة بيضاء» نعم يولد صفحة بيضاء والكل يكتب فيها ما شاء ولكن لابد من الحرص أن نكتب في هذه الصفحة بحرص لأن الذي نكتبه لا نخطه بقلم الرصاص لنستطيع أن نمحوه لاحقا بل هو نقش على الحجر لا تمحوه أعتى الرياح؛ فاحرص أن تكتب ما تريد أن يسرك قراءته مستقبلا من طفلك.