استدارة بوتين بـ«الإيحاء النووي»
السبت - 01 أكتوبر 2022
Sat - 01 Oct 2022
يأبى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلا أن تستمر «عمليته الخاصة» في أوكرانيا محط أنظار العالم، فلا أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ولا وفاة ملكة بريطانيا إليزابيث بكل ما صاحبها من بروتوكولات مهولة، ولا الخطاب الصيني الجاف الموجه له على هامش قمة منظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند كانت رادعة لاستمرار الزخم حول الأزمة الأوكرانية، فبتصريح واحد أثناء هذا كله، شدد فيه بوتين على جديته عند حديثه عن إمكانية استخدام كل ما تمتلك روسيا من أسلحة في الدفاع عن نفسها، بما في ذلك السلاح النووي، والمتابع بدقة للخطاب الروسي منذ بدء الحرب سيستنتج أن هذه هي المرة الأولى التي يسمي بها بوتين السلاح النووي، ليس هو فقط بل حتى أحد أقرب رجاله وهو دميتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي والرئيس الروسي الأسبق؛ لذا سرعان ما ثارت على إثر هذا التصعيد موجة تنديد غربية مصطحبة معها اعتبار هذا التصريح ينم عن حالة اليأس وقلة الحيلة التي أصيب بها بوتين.
ولكن إذا نظرنا إلى المعطيات بعين أشمل من مجرد هذا التصريح سنجد أنه ما جاء إلا غطاء لتغيير استراتيجي كبير في أهداف العملية الروسية، كنتيجة لعاملي التطورات الجديدة على الأرض، وتغيير في الاستراتيجية الغربية المضادة لروسيا بعدما راحت تجر أذيال خيبة العقوبات الاقتصادية في تحقيق أهدافها من جهة، ومن جهة ثانية بعد كسر الجيش الروسي لصورته الباطشة والقاهرة التي تخيلها العالم الغربي في بداية العملية، خاصة بعد عجزه عن السيطرة على كييف في مارس الماضي، فبعدما كان الغرب يستهدف فقط ردع الهجوم الروسي وتحرير أوكرانيا في أسرع وقت ممكن، أصبح راهنا يسعى بكل وضوح إلى استنزاف الروس في حرب شاملة وطويلة جدا.
وقد بدا واضحا أيضا أن تغير الاستراتيجية الغربية في إدارة الحرب بدأت منذ عرقلة المحادثات الروسية الأوكرانية وإجهاض وقف إطلاق النار كخطوة أولى؛ بحجة عدم الثقة في عقلانية بوتين بصفته مجرم حرب، وذلك بعد الزيارة التي أجراها رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون إلى كييف في 9 أبريل الماضي، إضافة إلى أن البيت الأبيض كان قد كشف الشهر الماضي أنه مقدم على اختيار جنرال أمريكي لقيادة جهود بلاده في دعم أوكرانيا، وزيادة المخصصات العسكرية بنحو 3 مليار دولار إضافية للتعاقد مع شركات أمريكية لتصنيع الأسلحة والمعدات العسكرية وتزويد الجيش الأوكراني بها على مدى ثلاث سنوات مقبلة، إضافة إلى البحث عن تسمية للدور الأمريكي في هذه الحرب كتقليد عسكري معتاد يدلل على نوع النشاط العسكري وحدوده؛ ما يعني أن الولايات المتحدة باتت تعد نفسها طرفا رئيسا في هذه الحرب وليست قائدة من وراء الحدود تمرر المسؤولية إلى الأوكرانيين فقط.
أما من حيث التطورات الجديدة على الأرض، فقد فقدت روسيا سيطرتها على مساحات شاسعة من منطقة خاركيف شرق أوكرانيا خلال هذا الشهر، في مقابل تقدم الأوكرانيين وحيازتهم على كمية ليست بالقليلة من العتاد العسكري الروسية بالمجان تقريبا، أعقب ذلك تصريح للرئيس التركي إردوغان بعد محادثة له مع بوتين بأنه يعتقد أن الزعيم الروسي يسعى إلى «إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن»، وكان من المعاكس لاعتقاد إردوغان هذا هو ما أعقبه من قرارات عسكرية مشددة أصدرها بوتين، تستهدف دحض التقاعس وتعزيز روح القتال والحفاظ على ممتلكات الدولة وإعادة ضبط العقيدة العسكرية للمحاربين الروس، إضافة إلى إقرار وتنفيذ التعبئة العسكرية الجزئية سريعا من خلال استدعاء 300 ألف مقاتل احتياطي من أصل 25 مليون ممكنة لبوتين، ليصل بذلك عدد الجيش الروسي قرابة مليون ونصف بحسب التقديرات الغربية.
وقد كان الهدف الاستراتيجي المعلن للعملية الروسية الخاصة منذ إعلانها يكتفي بإقليم الدونباس الواقع شرق أوكرانيا، وما تغير الآن هو أن الهدف اتسع ليشمل جنوب أوكرانيا أيضا مثل مدينة خيرسون الغنية بالموارد المائية، ومدينة زاباروجيا صاحبة أكبر محطة نووية في أوروبا التي من شأنها أن تؤمن الطاقة الوافرة للمناطق التي ستنضم إلى روسيا، ومن المهم هنا الإشارة إلى أن عمليات الضم هذه ستزيد من مساحة روسيا حوالي 20% وستزيد من عدد سكانها أيضا نحو 8 مليون نسمة، وفي هذا الصدد ذكر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أن عمليات الضم هي ببساطة تجاوب مع طلب النظام الأوكراني عندما صرح زيلينيسكي في أغسطس 2021 عندما قال «أي شخص يشعر بأنه روسي عليه الخروج والذهاب إلى روسيا من أجل مصلحته أبنائه وأحفاده» إذ قال لافروف متهكما «إنهم يطبقون هذا الكلام بالضبط ولكنهم يأخذون معهم أرض أجدادهم».
لذا يكون من المؤكد أن بوتين الآن ذاهب لضم أراض أوكرانية إلى بلاده في الوقت الذي يواجه فيه اضمحلالا في التأييد الداخلي، واعتراضات في مناطق عديدة تنديدا بقرار التعبئة الجزئية، خاصة وأن الداخل الروسي قد أحس بأن الخطر بات وشيكا من إحاطته وتطويقه بعدما طالته، إلى جانب التعبئة الجزئية، عمليات عسكرية -وإن كانت محدودة- مثل عملية اغتيال داريا دوغينا، لذلك حرص بوتين على إجراء تغييرات في القيادات العسكرية امتدت إلى نائب وزير الدفاع دميتري بولغاكوف الذي كان يشرف على لوجستيات الجيش الروسي، وكأن بوتين يريد من الإمداد البشري الجديد أن يدفع بمن لديه كامل الجهوزية النفسية لحرق الأرض ومن عليها، بعدما سيصبح الدفاع عن هذه الأراضي باعتبارها داخل الحدود الروسية يشبه الدفاع عن موسكو وسانت بطرسبورغ، وبالتالي ربما تكون هذه القرارات مساندة لحشد التأييد والاصطفاف الداخلي مع الجيش بإسناد من دعاية روسية تشيطن العالم الغربي أكثر وتجعل المقاتلين الجدد يذهبون إلى ساحة الحرب وفي أذهانهم أن من أمامهم الآن هو عدو حقيقي يبادلهم أشد الكراهية.
وبناء على كافة هذه المعطيات يمكن القول بأن الدافع من وراء تصريح بوتين ليس القنوط من الانتصار، ولكنه إيحاء مهم للتغطية على الاستدارة الكبرى والضرورية لبوتين نفسه قبل روسيا كدولة بجيشها وبشعبها، ولن تكون هذه المناورة أخيرة في هذه الحرب التي يصعب أن يتلقف المتابع منطقا واضحا لسلوكها، بل ستستمر روسيا في رفع سقف أهدافها والبحث عن إيجاد ضالتها في مسار تسيطر من خلاله على الحرب للخروج بأكبر المكاسب الممكنة؛ لقناعتها بأن إنهاء الحرب بهذه النتائج هي كارثة غير مجدية إطلاقا.
وبالتالي ستتزايد حالة التصعيد الروسي وربما ستتسع رقعة الحرب أكثر في قادم الأيام لتنزلق إلى خارج الحدود الأوكرانية، وحينذاك ربما سنسمع إعلان «حرب» روسي وليس «عملية خاصة» كما يحاول الروس تحجيمها طيلة الأشهر الماضية، وسيكون العدو لروسيا حينها ليسوا نازيي أوكرانيا فحسب؛ بل العالم الغربي بقارته العجوز وعمه سام من وراء البحار.
1_9oba@
ولكن إذا نظرنا إلى المعطيات بعين أشمل من مجرد هذا التصريح سنجد أنه ما جاء إلا غطاء لتغيير استراتيجي كبير في أهداف العملية الروسية، كنتيجة لعاملي التطورات الجديدة على الأرض، وتغيير في الاستراتيجية الغربية المضادة لروسيا بعدما راحت تجر أذيال خيبة العقوبات الاقتصادية في تحقيق أهدافها من جهة، ومن جهة ثانية بعد كسر الجيش الروسي لصورته الباطشة والقاهرة التي تخيلها العالم الغربي في بداية العملية، خاصة بعد عجزه عن السيطرة على كييف في مارس الماضي، فبعدما كان الغرب يستهدف فقط ردع الهجوم الروسي وتحرير أوكرانيا في أسرع وقت ممكن، أصبح راهنا يسعى بكل وضوح إلى استنزاف الروس في حرب شاملة وطويلة جدا.
وقد بدا واضحا أيضا أن تغير الاستراتيجية الغربية في إدارة الحرب بدأت منذ عرقلة المحادثات الروسية الأوكرانية وإجهاض وقف إطلاق النار كخطوة أولى؛ بحجة عدم الثقة في عقلانية بوتين بصفته مجرم حرب، وذلك بعد الزيارة التي أجراها رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون إلى كييف في 9 أبريل الماضي، إضافة إلى أن البيت الأبيض كان قد كشف الشهر الماضي أنه مقدم على اختيار جنرال أمريكي لقيادة جهود بلاده في دعم أوكرانيا، وزيادة المخصصات العسكرية بنحو 3 مليار دولار إضافية للتعاقد مع شركات أمريكية لتصنيع الأسلحة والمعدات العسكرية وتزويد الجيش الأوكراني بها على مدى ثلاث سنوات مقبلة، إضافة إلى البحث عن تسمية للدور الأمريكي في هذه الحرب كتقليد عسكري معتاد يدلل على نوع النشاط العسكري وحدوده؛ ما يعني أن الولايات المتحدة باتت تعد نفسها طرفا رئيسا في هذه الحرب وليست قائدة من وراء الحدود تمرر المسؤولية إلى الأوكرانيين فقط.
أما من حيث التطورات الجديدة على الأرض، فقد فقدت روسيا سيطرتها على مساحات شاسعة من منطقة خاركيف شرق أوكرانيا خلال هذا الشهر، في مقابل تقدم الأوكرانيين وحيازتهم على كمية ليست بالقليلة من العتاد العسكري الروسية بالمجان تقريبا، أعقب ذلك تصريح للرئيس التركي إردوغان بعد محادثة له مع بوتين بأنه يعتقد أن الزعيم الروسي يسعى إلى «إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن»، وكان من المعاكس لاعتقاد إردوغان هذا هو ما أعقبه من قرارات عسكرية مشددة أصدرها بوتين، تستهدف دحض التقاعس وتعزيز روح القتال والحفاظ على ممتلكات الدولة وإعادة ضبط العقيدة العسكرية للمحاربين الروس، إضافة إلى إقرار وتنفيذ التعبئة العسكرية الجزئية سريعا من خلال استدعاء 300 ألف مقاتل احتياطي من أصل 25 مليون ممكنة لبوتين، ليصل بذلك عدد الجيش الروسي قرابة مليون ونصف بحسب التقديرات الغربية.
وقد كان الهدف الاستراتيجي المعلن للعملية الروسية الخاصة منذ إعلانها يكتفي بإقليم الدونباس الواقع شرق أوكرانيا، وما تغير الآن هو أن الهدف اتسع ليشمل جنوب أوكرانيا أيضا مثل مدينة خيرسون الغنية بالموارد المائية، ومدينة زاباروجيا صاحبة أكبر محطة نووية في أوروبا التي من شأنها أن تؤمن الطاقة الوافرة للمناطق التي ستنضم إلى روسيا، ومن المهم هنا الإشارة إلى أن عمليات الضم هذه ستزيد من مساحة روسيا حوالي 20% وستزيد من عدد سكانها أيضا نحو 8 مليون نسمة، وفي هذا الصدد ذكر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أن عمليات الضم هي ببساطة تجاوب مع طلب النظام الأوكراني عندما صرح زيلينيسكي في أغسطس 2021 عندما قال «أي شخص يشعر بأنه روسي عليه الخروج والذهاب إلى روسيا من أجل مصلحته أبنائه وأحفاده» إذ قال لافروف متهكما «إنهم يطبقون هذا الكلام بالضبط ولكنهم يأخذون معهم أرض أجدادهم».
لذا يكون من المؤكد أن بوتين الآن ذاهب لضم أراض أوكرانية إلى بلاده في الوقت الذي يواجه فيه اضمحلالا في التأييد الداخلي، واعتراضات في مناطق عديدة تنديدا بقرار التعبئة الجزئية، خاصة وأن الداخل الروسي قد أحس بأن الخطر بات وشيكا من إحاطته وتطويقه بعدما طالته، إلى جانب التعبئة الجزئية، عمليات عسكرية -وإن كانت محدودة- مثل عملية اغتيال داريا دوغينا، لذلك حرص بوتين على إجراء تغييرات في القيادات العسكرية امتدت إلى نائب وزير الدفاع دميتري بولغاكوف الذي كان يشرف على لوجستيات الجيش الروسي، وكأن بوتين يريد من الإمداد البشري الجديد أن يدفع بمن لديه كامل الجهوزية النفسية لحرق الأرض ومن عليها، بعدما سيصبح الدفاع عن هذه الأراضي باعتبارها داخل الحدود الروسية يشبه الدفاع عن موسكو وسانت بطرسبورغ، وبالتالي ربما تكون هذه القرارات مساندة لحشد التأييد والاصطفاف الداخلي مع الجيش بإسناد من دعاية روسية تشيطن العالم الغربي أكثر وتجعل المقاتلين الجدد يذهبون إلى ساحة الحرب وفي أذهانهم أن من أمامهم الآن هو عدو حقيقي يبادلهم أشد الكراهية.
وبناء على كافة هذه المعطيات يمكن القول بأن الدافع من وراء تصريح بوتين ليس القنوط من الانتصار، ولكنه إيحاء مهم للتغطية على الاستدارة الكبرى والضرورية لبوتين نفسه قبل روسيا كدولة بجيشها وبشعبها، ولن تكون هذه المناورة أخيرة في هذه الحرب التي يصعب أن يتلقف المتابع منطقا واضحا لسلوكها، بل ستستمر روسيا في رفع سقف أهدافها والبحث عن إيجاد ضالتها في مسار تسيطر من خلاله على الحرب للخروج بأكبر المكاسب الممكنة؛ لقناعتها بأن إنهاء الحرب بهذه النتائج هي كارثة غير مجدية إطلاقا.
وبالتالي ستتزايد حالة التصعيد الروسي وربما ستتسع رقعة الحرب أكثر في قادم الأيام لتنزلق إلى خارج الحدود الأوكرانية، وحينذاك ربما سنسمع إعلان «حرب» روسي وليس «عملية خاصة» كما يحاول الروس تحجيمها طيلة الأشهر الماضية، وسيكون العدو لروسيا حينها ليسوا نازيي أوكرانيا فحسب؛ بل العالم الغربي بقارته العجوز وعمه سام من وراء البحار.
1_9oba@