شاهر النهاري

أسطورية ارتحال ملكة ممالك النحل

الاثنين - 26 سبتمبر 2022

Mon - 26 Sep 2022

حظينا بمتعة تلمس أجزاء من حياة الأسطورة، التي كانت أقراص شمعها لا تغيب عنها الشمس، وكانت تضم تحت جناحيها عددا من الدول والخلايا، والتي كانت تدين لتاجها بالولاء، ضمن فترة ولاية غير مسبوقة، وتواجد وأداء معجز، يصعب تكراره، من أي ملكة نحل أخرى، بنفس الروح، والسيطرة الحبيبة، على أفئدة من يتبعونها حبا من النحل، والشغالات، والجنود، والحراس لمملكتها، التي تولتها منذ ريعان شبابها، فعرفت معها أعظم تحديات القدرة والبروز والقيادة، والسياسة، وزرع روح العدالة، والرغد والتقدم، وإرضاء مختلف طباع النحل، نشيطها وكسولها متبدلها وطامعها، ورفضت العنصرية، وأبدعت وتخطت بشؤون مملكتها مصاعب أكثر من سبعة عقود من الزمان.

وحان أوان مغادرتها، فتركت كنوز أقراص من الأمل، والقدرة، والتعاون، وجمع الرحيق، والخضوع المحبب في أنفس نحل طيار، تأصلت بشرايينه معاني التقديس.

أيام ارتحال وتأبين مهيبة، أبهرت خلايا الكون، وسجلت أبدع الذكريات، بدقة تفاصيل الوجود والماضي، وكيف كانت الملكة الإنسانة قادرة على أداء واجباتها المنزلية، والزوجية رفقة فارس أحلامها الأمير الداعم، وكيف اعتنت بأبنائها، وأحفادها، في نفس الوقت، الذي أدارت فيه علاقات أمم متباعدة، مؤكدة بثقتها على قربها منهم بحلاوة الرحيق.

لقد استعرضت أعين التاريخ لقاءاتها الرسمية مع ملوك نحل من أطراف الأرض، وكيف صمدت حينما توالى رحيل الملوك والعظماء والخلايا، وهي محتفظة ببسماتها الهادئة، ونظرات عينيها الزرقاوين، وكلماتها الهامسة القريبة، المطمئنة، تحث المشاعر، وتأبى قطع زهور الرحيق، أو التفرد بالعسل.

ارتحال مهيب كفرحة القدوم والولادة، وبلورة حرص دقائق الطقوس والمراسم، خططت لها وحسنتها بنفسها قبل الوداع، لتترك أثرا من اليقين والعدالة منقطع النظير، وتخبر الكون حكايات تفردها، وتخليد عروش مملكتها، ودقة انتظام العاملين حولها، وإجلال مقام كل عظيم حضر محبة من أطراف الأرض، لحضور آخر خطوات الرحلة، وسماع قرع نواقيس الذكرى، في الأجواء الساهمة، وبأنفس ملايين اصطفوا على الأرصفة لعشرة أيام بالشجن والشمع والورود، وعلى الشاشات بالزهو والدهشة، وهي بأعلامها وصولجانها وكرتها وتاجها تودع الجموع، والعرش، وتبارك الجهود، وتؤكد العهود، وبنظرة للبعيد مترفعة عن ضيق الزوايا، وبترنيمات توزع الحب والسلام والعسل، وترفع قيمة النحل المنهمك في تأدية واجباته نحوها.

ارتحال لم تترك فيه أحدا دون إبراز قيمته، حتى حيواناتها المستأنسة الفاقدة، من خيل، وكلاب، جعلت لهم وقفة، وموقفا، ولم تهمل كل من سار معها ولو خطوة، وكل من نظر لها من بعيد.

ملكة تركت العسل والشمع بأيدي الصناع، وتمتعت بكونها الأم، والملكة، والرمز، والمكانة والوقار، منذ بدء رتوش أحلامها، وحتى بكى رحيلها جسر لندن العريق، وتعانقت في وداعها عظمة القصور والقلاع والكنائس الصامدة طوال العصور، تباهي بها الأمم روعة، وهندسة، ومتانة، وإعجاز، وتاريخ يحكي بلسان نحل الوديان والجبال، التي لا تسكب العسل في غير مكانه.

العالم يتطور، والتصوير الجوي يكشف ويفضح مواطن الخلل، ولكنا شهدنا بأعين جولتها عالما نموذجيا من الحضارة الأنيقة المهيبة بالساحات الشفيفة البديعة، والمباني الهندسية، والأراضي الطيبة الخضراء، والسيارات المتناسقة المواقف، وطوابير المؤبنين المتناسقة، والشعوب الحزينة بصمتها والمتراصة بالأيام في تشييع جنازة مهيبة مكوكية، لم نشهد فيها فوضى أو نشاز، ولا ارتجالية أو عبث، ولا خروجا عن الأخلاق، ولا نقرة تحتاج لتعديل، أو إعادة تأصيل.

shaheralnahari@