نمر السحيمي

عبدالرحمن والخلود في ذاكرتي

السبت - 24 سبتمبر 2022

Sat - 24 Sep 2022

«الذاكرة هي قوة نفسية تحفظ الأشياء في الذهن وتحضرها للعقل عند الاقتضاء». وتم تعريفها أيضا بأنها «قدرة عقلية خاصة على تذكر بعض الأشياء».

وهناك فرق بين أن تخلد الذاكرة شيئا وبين أن تتذكر هذا الشيء؛ فالخلود في الذاكرة شيء لا يحتاج إلى تذكر، بينما وحسب التعريف ما يتم تذكره سيكون له حالة تقتضيه.

والخلود في الذاكرة أنواع متعددة؛ فالأنبياء والرسل يخلدون في ذاكرة الأمة، والملوك يخلدون في ذاكرة الشعوب، والوجهاء والمشايخ يخلدون في ذاكرة المجتمعات وهكذا.. فإن لم تكن من الخالدين المذكورين فعليك أن تبذل جهدك لتخلد في ذاكرة شخص واحد إن استطعت، فهل يستطيع شخص أن يخلد في ذاكرة شخص آخر لا تربط بينهما صلة أيا كانت هذه الصلة؟

من الممكن إن كنت عالما أو أستاذا جامعيا أو معلما كـ (شخص) أن تقدم معلومة تخلدك في ذاكرة أحد مريديك أو طلابك؛ فطبيعة هذه الأعمال تؤهلك إلى الخلود في ذاكرة الآخرين إن كنت أمينا على العلم الذي وهبك الله مهما كان حجم هذا العلم وقدره.

وأجزم أن الخلود في ذاكرة المتلقي سواء كان طالبا أو غيره هي معيار صدق للعالم أو الأستاذ أو المعلم، وبدون هذا المعيار ستظل المنظومة التعليمية خالية من روحها، ومفرغة من مضمونها.

وسأتحدث في هذا المقال عن حالة خلود لمعلومة في ذاكرتي منذ أكثر من أربعين سنة ماضية، حين كنت طفلا نحيفا شاحبا في (الصف الثاني الابتدائي)، فاقدا لكل وسائل العناية إلا من عناية الله التي لمستها في توفيقه لي من خلال شغفي وحبي للمعرفة منذ ذلك الزمن، وكان (الجار الجنب) لديه طفل يصغرني بسنتين كان يدرس في (الصف الأول الابتدائي)، وكنا نلتقي كطفلين مع أقراننا من أبناء حي المستراح شمال المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وهنا تفقد الذاكرة كل شيء إلا تلك المعلومة التي علمني إياها ذلك (الطفل) الذي تعلمها هو

من أحد رعاة إبل والده، فقد كرر على مسمعي الأرقام من واحد إلى عشرة باللغة الأوردية (إيك دو تين جار بنج شيش سات آت نو داس) حتى حفظتها، ومنذ ذلك الزمن لم أتعلم من اللغة الأوردية غيرها.

مات ذلك الطفل بعدها بأشهر قبل أن يكمل الصف الأول الابتدائي، ومات والده بعد ذلك، وانتقلت أسرتي عن الحي، وطويت صفحة تلك الفترة، وخلدت في ذاكرتي تلك المعلومة التي علمنيها ذلك الطفل إلى اليوم، وطيلة حياتي الماضية أردد العد إلى العشرة باللغة الأوردية، ثم أتذكر الطفل الذي تعلمتها منه وأترحم عليه، ولربما نسيه أهله كونه مات طفلا فلم يكن هناك مجالا ليتذكروه، بينما بقيت المعلومة التي علمها لي خالدة في ذاكرتي، وسببا لدعائي المستمر له بالرحمة والمغفرة كلما استحضرت المعلومة.

إن ذاكرتي وأي ذاكرة لا يمكن أن تحتفظ بأسماء الأطفال من (الجار الجنب) في العقد الأول من الحياة؛ خصوصا أولئك الذين لا تربط بيننا وبينهم صلة إلا أنني بسبب تلك المعلومة لا زلت احتفظ باسم الطفل (عبدالرحمن بن هديبان السهلي) رحمه الله منذ أكثر من أربعين سنة.

فما أكرم العلم مهما كان قليلا، وما أعظم من يحمل أمانته بصدق ولو كان صغيرا.

اكتب ذلك وأنا أرى وألمس حرب الإقصاء الجائرة في منظومة تعليمنا من قوم يعيشون على هامش الحياة لا يعلمون فضل العلم والتعلم وهم يدّعون العلم؛ وقد قال عن مثلهم الحق جل وعلا (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا). وما أدق الوصف في الآية الكريمة (بل هم أضل سبيلا)؛ لأن الأنعام خير منهم كونها لا تحسد بعضها التعلم، إذا دربها رعاتها على سبيل الانتظام.

رحم الله عبدالرحمن الذي خلد في ذاكرتي إلى يوم أن ألقى الله، وعوض الله الذين أقصتهم (الأنعام البشرية) عن تعليم العلم والحكمة بسعة الدنيا، وعز الآخرة، والخلود في ذاكرة المنصفين من أبناء الوطن والأمة والإنسانية جمعاء.

alsuhaimi_ksa@