علي العقيلي

اليمنان.. الجواني والبراني!!

الأحد - 18 سبتمبر 2022

Sun - 18 Sep 2022

من عجائب الدنيا أن رغاء أطراف الأزمة اليمنية يعلو ولا يعلى (أنصار «الزعيم» الراحل، وأنصار الحوثي، وأنصار هادي وأنصار «القنوب العربي» وأنصار كل طالب نصر في اليمن المهزوم)، نراهم في كل الأخبار يتوافدون على المؤتمرات خارج اليمن في كل مكان، وقد يقولون إنهم كلهم متفقون على القرار الأممي 2216 الذي وقعوه، وعلى المبادرة الخليجية التي وقعوها، وعلى مخرجات الحوار الوطني أيضا التي وقعوها، وعلى اتفاقات كثيرة أخرى لن يتوقف توقيعهم عليها، مليئة بنسخها حقيبة كل مبعوث أممي سابقهم ولاحقهم.. فلماذا يتقاتل القوم إذن؟ وأين المشكلة؟!

والله أعلم، أن المشكلة في اليمن نفسه.. فهناك اليمن الجواني.. وهناك اليمن البراني!!

واليمني ينتقل بينهما دائما، ينقله التوق والشوق، بفارق أن اليمن الجواني ثابت، أما اليمن البراني فمتحرك!

في اليمن الجواني، يُرى اليمنيون دائما أشقياء، ولعلهم يستعيضون بالغناء والرقص الجماعي على ثرى اليمن الجواني رغم بؤس الحال، ثم يسعد حالهم في بلاد غيرهم أيا كانت فهي لهم اليمن البراني، ثم يطول بهم الأمد حتى يجتاحهم الشوق، ثم يستحيل هذا الشوق إلى ألم وشكوى وتبرم وحنين فياض إلى اليمن، لا فرق حينها بين اليمن الجواني أو إلى يمن براني جديد غيره، وهكذا تستديم حالة الاغتراب والنأي عن اليمن المفقود.

ولعل هذه الحال المتناقضة تجعل شخصية اليمني مشقوقة ومتقلبة طوال الوقت، فهو تواق دائما إلى يمن مختلف هناك في البعيد لا يفصله عنه إلا السفر، يمن أبهى، وأسعد، وأحسن، ومختلف كليا، متوافق مع «نشتي يمن جديد» كما عبر مرة الشيخ عبدالله الأحمر - رحمه الله - في مجلس الشورى اليمني حين ضاق ذرعا بمطالب النواب اليوتيوبية في بلد ثلاثة أرباع سكانه يبيتون في الظلام.

وهؤلاء المتبرمون المشقوقون بين اليمنين، يظلمون أول ما يظلمون به أنفسهم، فالمسافر إلى اليمن البراني يهجر وراءه أهله وجيرانه، ويترك ما يعرف من أجل مالا يعرف.

وضيق الحال الذي هجّر الأحفاد بريء من تهجير اليمنيين الأجداد الأوائل الذين اجتمع لهم السعد وطيب المقامة في اليمن الجواني، فما لبث بهم التبرم والتظالم أن قالوا (ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور).

وكأن حال اليمنيين المتبرمين بلا شكر منذ ذلك الزمن الغابر باليمن الجواني رغم كل مباهجه وجماله وجلاله، يحثهم أن يكونوا سعداء في اليمن البراني المنشود رغم لأوائه وشقائه ولوعاته!

والله أعلم أيضا، أن اليمني في ركضه المستمر فيما بين اليمنين حتى توافيه المنية، مشرق وبديع وخلاق، يرى نفسه غريبا أبدا، يكتب ويلحن أرق أغانيه الدفاقة بالتوجع والتشوق حد الموت كما في أغنية «مسعود هجر» للعبسي عبدالباسط، أو حد الازدواج، كما في «ارجع لحولك» و «طائر امغرب»، الأغنيتين الذائعتين للفنان العبسي الآخر: أيوب طارش.

فحين يسمعهما اليمني الرقيق المغترب بصوت أيوب العذب، فإنه لا يملك نفسه أن يحزم حقيبته ويعود إلى اليمن الجواني، وحين يسمعهما اليمني المقيم في اليمن الجواني، فإنه أيضا لا يملك من نفسه أن يحزم أمتعته ويغترب من جديد وراء «طائر امغرب».. إلى اليمن البراني.

وفي ركضه المستمر هذا أيضا، فإن الإنسان اليمني قد يصبح شديد الحساسية بالتاريخ، فاقد الحساسية بالجغرافيا، وهو داء فرقة قديم جدا.

زار علامة شمالي علامة حضرميا، وسأله الحضرمي الذي استضافه: كيف تركت اليمن؟

فقال أنا في اليمن!!

ثم قامت القيامة.

وحتى اليوم، يتمايز اليمنيون بعضهم عن بعض في كل مجلس يجمعهم ويتمزق بينهم اليمن بحسب القرية والقبيلة، ولايزال من جموع اليمنيين من يرى اليمن في الشمال فحسب، ومنهم من يراه في الشمال والجنوب، وهناك من لا يرى الجنوب من اليمن، وهناك الذي يرى حضرموت ليس من الجنوب، وهناك الذي يرى الجزيرة العربية كلها اليمن الكبير! لذلك، باتت جغرافية اليمن في وجدان اليمنيين قابلة للطرق والسحب، تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة!

وحتى حدود اليمنيين اليوم، لا اليمن، تمتد من جاكرتا حتى ديترويت!

حسنا.. لنعد يا صديقي إلى هؤلاء الفرقاء المتناحرين حين تراهم يتقابلون في كل مكان خارج اليمن في الفنادق والمؤتمرات يتحدثون ويدخنون ويأكلون ويشربون ويضحكون، وكأنهم إخوة لا خصماء.. ذلك هو تأثير مبتدأ اليمن البراني السعيد! ثم انظر إلى عساكرهم من ورائهم في كل مكان داخل اليمن يتقاتلون ويتقاذفون بالمتفجرات في الصباح والمساء وما بينهما.. ذلك هو تأثير خبر اليمن الجواني التعيس!

البردوني يوم قال يمانيون في المنفى، ومنفيون في اليمن.. كان رحمه الله كأنما يتحدث من وراء الحجب عن هذا اليمن المشقوق، فهو يرى أن اليماني لا يكون يمانيا إلا في اليمن البراني، فهو يتغنى ويتوجع لليمن، أما في اليمن الجواني فهو منفي فيه يشتمه ليل نهار!