صهيب الصالح

الهوة بين الجيل الطالباني الثاني والاعتراف الدولي

السبت - 17 سبتمبر 2022

Sat - 17 Sep 2022

في الشهر الماضي مر عام على تولي حركة طالبان زمام السلطة ومصير المجتمع في أفغانستان، وقد بدا للعالم آنذاك أن المشهد يقدم جيلا جديدا من حركة طالبان مختلفا عن سابقه (1996-2001) الذي أدبر قبل عشرين عاما، وظهر هذا الجيل على أنه هجين بين الجمود القديم والانفتاح المحدود إثر الوعود والالتزامات التي أطلقها قياديو الحركة في خطابهم؛ لذا ظل العالم يترقب بحماسة مبالغة كل قرار وخطاب يخرج من أفغانستان ويدونه في سجلات المقارنة ليستشير نفسه في مسألة الاعتراف الدولي بهذه الحكومة من عدمه، لكن أوجه المقارنة بطبيعة الحال أخذت منحى أحاديا باتجاه الحقوق والحريات، وهذا ما يجعل الحديث يدور فقط في قضية المرأة الأفغانية كمحور اهتمام رئيس، ثم الاهتمام بالقيود الأخرى على ما يصنف ضمن نطاق حقوق الإنسان مثل معاملة الأقليات العرقية والطائفية، واللافت في هذه المرحلة هو محاولات بعض الأوساط السياسية الغربية ربط نشاط التنظيمات الإرهابية في الداخل الأفغاني بهذه الحركة، سيما بعد التطور الكبير في الإعلان الأمريكي عن قتل زعيم تنظيم القاعدة الإرهابي أيمن الظواهري وتنديد حكومة طالبان بهذه العملية، حيث يرصد المراقبون تواجدا لعدد من قيادات هذا التنظيم في أفغانستان في الوقت الذي ينشط فيه الشطر الآخر للإرهاب وهو تنظيم «داعش- ولاية خراسان».

وفي الحقيقة إذا ما أردنا التمحيص في الجيل الثاني من حركة طالبان علينا الابتعاد قليلا عن المنظور الحقوقي والتوغل في تفاصيل البنية الفكرية للحركة، التي من المؤكد أن سلوكها سينبثق عن هذه البنية، ومن المهم هنا البداية من حيث نشأت الحركة في عام 1994 على يد «الملا محمد عمر» ومن يحيطه من طلاب العلوم الشرعية المنتمين إلى قومية البشتون فقط من أصحاب العقيدة الماتريدية التي تعطي العقل مكانة توازي قداسة النص الفقهي، وتتسع ديموغرافيا في شرق ووسط آسيا وصولا إلى تركيا وروسيا، لكن وبعد مقتل هذا الملا ومن خلفه الملا منصور عام 2016 واعتلاء «هبة الله أخوند زاده» كقائد أعلى للحركة، يمكن القول إن الحركة قد طورت من بنيتها الفكرية لتتسع للأفق الأفغاني بمكوناته المختلفة بعدما امتدت في جيلها الأول عموديا في ذات المذهب وذات القومية؛ لذا كانت قرارات الجيل الأول من حركة طالبان تنطلق من مرجعية تمزج الرؤى الفقهية والكلامية مع الثقافة القبلية القاسية والبيئة الاجتماعية المنغلقة في أفغانستان التي تفرض تلك الأنواع من القرارات؛ أي أن تقوقع المجتمع الأفغاني وانعزاله كان له الدور الأبرز في الشكل الذي كان عليه الجيل الأول من الحركة.

ولذلك أيضا سيكون أي تحليل يرتكز على دينية الحركة فقط تحليلا مختلا، وهو في الحقيقة يشبه -فيما لو تجسد- مشهد الانسحاب الفوضوي للجيش الأمريكي وحلفائه من أفغانستان، ولهذا لا ينبغي تجاهل حقيقة انغلاق المجتمع الأفغاني وتقوقعه على ثقافته القبلية وما يترتب على ذلك من أدوار في تشكيل عقلية صناعة القرار السياسي في أفغانستان، إذ قد يدفع هذا العامل إلى استماتة أي حركة أو حزب، وليس طالبان فقط، إلى إقرار كل قانون يحافظ على هذا الانعزال ويقف رادعا ضد أي محاولات من المجتمع الدولي لاختراقه، ومن هذا الجانب أصبحت أفغانستان مستعصية على من يتدخل فيها عسكريا، ومن هذا الجانب أيضا يمكن قراءة تنديد حكومة طالبان بالعملية الأمريكية التي استهدفت فيها الظواهري؛ ليس لأنه زعيم تنظيم القاعدة الذي لا يربط بينه وبين حركة طالبان أي بنية فكرية، ولكن لأن العملية تمت بأدوات أمريكية اخترقت الفضاء الأفغاني المغلق.

والحالة الأفغانية ليست هي حالة الانغلاق الأولى في التاريخ البشري، فقد سبقتها اليابان بالانغلاق على نفسها قرابة ثلاثة قرون؛ بحكم العقيدة اليابانية التي تؤمن بانحدار عرقيتهم من سلالة الشمس فيما يعرف بقبيلة «ياماتو» إضافة إلى تأثير موقعها الجغرافي المكون من العديد من الجزر التي شكلت نوعا من العزلة الطبيعية وانعكست على سلوك شعبها تجاه الآخر، ولم تتعرف اليابان على العالم إلا بعد عهد الإمبراطور ماجي (1868-1912) عقب الكثير من محاولات الدول الأوروبية لدفع اليابان نحو فتح أبوابها أمام التجارة العالمية، وأخيرا فتحتها معاهدة «كانجاوا» بين اليابان والولايات المتحدة وتبعها عشرات الاتفاقات مع روسيا وبريطانيا وهولندا؛ لكن اليابان كمتجمع ظلت حتى اليوم تتوجس من الأعراق الأخرى وتحافظ على «نقاء» هذه الياماتو.

إن اتساع حركة طالبان أفقيا في مكونات المجتمع الأفغاني المختلفة لربما يعطي إشارة على وجود نوع من التغير في البنية الفكرية ذاتها، وهذا يمكن قياسه من المواقف المتغيرة للحركة بين جيليها، ففي عام 2001 كانت الحركة تنظر إلى تنظيم الإخوان الإرهابي بوصفه أشد خطرا على الإسلام من الشيوعية السوفييتية، إذ منع الجيل الطالباني الأول أي أدوار لتنظيم الإخوان بل وأغلق جمعياتها أيضا، بينما نرى الآن وجودا لافتا لـ»الجمعية الأفغانية للإصلاح» نافذة تنظيم الإخوان الإرهابي على أفغانستان، وكذلك الزيارات المتبادلة بين قياديي الحركة وبين بعض قيادات تنظيم الإخوان العرب، وقد كان الجيل الأول ينظر إلى الأقلية الشيعية التي تمثل حوالي 10% من المجتمع الأفغاني بمحدد العداء العقدي، ويمنع كل تمظهرات هذه الطائفة ومناسباتها الدينية، بينما حدث في العام الماضي أن قام مسؤول أمني طالباني بزيارة مزار «شريف المولوي عبدالقادر» أثناء مراسم عاشوراء، وألقى كلمة اعتذر فيها عن أي إساءة أو تصرفات غير مسؤولة توجه إلى الطائفة الشيعية، وقال «نريد العيش جميعا كإخوة».

وبناء على ما سبق يمكن القول بأن على المجتمع الدولي الآن عدم اشتراط الاعتراف الدولي بحكم حركة طالبان في مسألة الحقوق والحريات، بل العمل على مساعدة الأفغان في الاندماج في المنظومة الدولية من خلال الاستثمارات في مجالات التنمية والبنى التحتية والاقتصاد الأفغاني، والعمل على توقيع اتفاقات تتضمن منحا تعليمية في عدد من الدول الإسلامية مثل إندونيسيا وبعض دول الخليج العربي ومصر، بالتوازي مع أهمية سفر العقول المستنيرة إلى الداخل الأفغاني لطرح وجهات النظر المحفزة لاندماج الأفغان من خلال المؤتمرات والندوات؛ لردم الهوة بين الجيل الطالباني الثاني الذي بدا عليه شيئا من التغير وبين وصوله إلى مرحلة الاعتراف الدولي، قبل أن تنفتح هذه البلاد أكثر على دولة مارقة مثل إيران أو تنظيم إرهابي مثل الإخوان المسلمين.

9oba_91@