مرزوق بن تنباك

وما قيمة أن يعتذر؟

الثلاثاء - 13 سبتمبر 2022

Tue - 13 Sep 2022

الكاتب الملتزم قد يكون مثل الشاعر تخطر على لسانه قصيدة أو أبيات في حال انفعالي وجداني فيعلنها للناس ثم لا يلبث أن يراجع نفسه ويدرك خطأ تسرعه وانفعاله، وكم من شاعر سجل ندمه على ما سبق لسانه إليه بعد فوات الأوان، وحين وجدت الصحافة والإعلام والالتزام كان الكاتب الملتزم مثل الشاعر يداهمه الوقت الذي يجب أن ينجز فيه عمله فيعمد إلى كتابة متعجلة قد لا يتروى فيها كثيرا وقد لا يفكر فيما وراء ما يطرح وقد قالوا المعنى في بطن الشاعر.

والكتابة مثل الشعر تكون ملكا للكاتب حتى يعلنها للناس ويطرحها للتداول في سوق القراءة الحرة عندئذ تصبح خاضعة لأحكام القراء الذين يتلقونها باستقلال ويقرؤونها ويفسرونها سواء وافقوا ما يهدف إليه منشئ النص الأصلي أو خالفوه، ولهذا السبب قال بعض النقاد بموت المؤلف وهي كلمة توحي في معناها البعيد إلى مفهوم التحول والانتقال لمال الميت من ملكه الخاص بعد موته إلى ملك القارئ الذي يصبح فيه النص وتفسيره ملكا لمن وصل إليه وليس لمن قاله وأبدعه.

ومقال الأسبوع الماضي (المثقف المختلف) كان من هذا النوع، نظر إلى الحضارات القديمة كالحضارة اليونانية والمسيحية والإسلامية التي قست على أفراد وجدوا فيها واكتشفت بعد مئات السنين صحة ما فعلوا وصواب ما قالوا فاعتذرت إليهم وأقرت بفضلهم، وفي تعليق على الماضي وتقديرا للمراجعة وأهمية الاعتذار نسي الكاتب مآسي حضارات الحداثة وما فيها من الأخطاء وما ارتكبت من الجرائم في حق البشرية كلها من أفعال لا يغفرها الاعتذار ولا تمحوها صحائف الندم ولو جعل ماء البحر مدادا لتسجيل الاعتذارات عن تلك الجرائم التي أحدثها رواد ما يسمونه عصر النهضة.

من هذه الجرائم جرائم الاستعباد التي وقع ظلمها الأكبر على غرب أفريقيا حيث استرقت الدول المتحضرة الحديثة مثل هولندا وبريطانيا وفرنسا وغيرها من دول غرب أوروبا الأفارقة السود وامتلكوهم كما تمتلك الأنعام، وأقاموا سوقا عالمية يبيعون الناس فيها كما تباع السوائم، ولم يحدث الاسترقاق في العصور الوسطى أو ما يسمونه عصور الظلام بل حدث في عصر الحداثة والتنوير وعصر الصناعة التي استخدمتها تلك الدول لإخضاع البشر وإذلالهم ومصادرة حقهم في الحرية والإنسانية، ولم يعتذر العالم الحر المتقدم عن شن الحرب العالمية الأولى التي راح ضحيتها ملايين الأبرياء من الناس في الأرض ولم تكتف بها وبما آلت إليه من الفظائع حتى أعقبتها بحرب ضروس مثلها وأشد منها هي الحرب العالمية الثانية، وليس لهاتين الحربين العالميتين هدف إلا تمكين الجبروت والقوة لمن يملك أسباب القوة وجبروتها وإضعاف الشعوب الأخرى والسيادة عليها.

ولم تعتذر الدول الغربية عن الاستعمار للشعوب الضعيفة في الكرة الأرضية حين نهبت خيراتها وصادرت ثرواتها واستنزفت مقدراتها وحكمت عليها بالتخلف قرونا طويلة ثم تركتها في ضعفها وفرقت جماعتها وأشعلت الحروب بينها وأغدقت السلاح عليها لتبقى الفتن الداخلية طريقا غير مباشر لمزيد من الاستنزاف لما بقي من ثروات تلك الشعوب المغلوبة ومقدراتها.

ولم تعتذر أمريكا العظمى ذات القطب الواحد في العالم عن غزو العراق وتدميره بحجة امتلاك سلاح الدمار الشامل ثم تعلن أنها كانت تكذب فيما قالت للناس ولم تستح من الكذب، ولا اعتذرت عن العدوان وهي تدفع العالم في الوقت الحاضر إلى حرب كونية ثالثة قد تقوم بها في أي لحظة، ولم يعتذر العالم المتحضر الحديث الذي ينادي بحقوق الإنسانية ويقيم المؤتمرات من أجلها لأهل فلسطين الذين أخرجوهم من أرضهم وأحلوا بها شعبا غيرهم ونصروه عليهم وأيدوا باطله على حق أهل الأرض المغلوبين على أمرهم.

لم يعتذر العالم الأول عن أخطائه وجرائمه في حق البشرية.

وما قيمة أن يعتذر؟

Mtenback@