زيد الفضيل

الثقافة ومثقفوها بين زمنين

السبت - 10 سبتمبر 2022

Sat - 10 Sep 2022

لا نزال على الصعيد الفردي والمجموع غير مستوعبين بأننا نعيش مرحلة فاصلة بشكل كلي بين زمنين، زمن ينتمي لطبيعة وجودنا الإنساني، وأظن أن آخر من يمثله في واقعنا المعاش هم جيل مواليد السبعينيات الميلادية إلى منتصف الثمانينيات كأقصى حد، ليبتدئ من بعدهم زمن جديد مجنون في تسارعه التقني وبالتالي الحياتي والإنساني، وضحت معالمه في عقد التسعينيات ولا نزال نعيش تسارعه المذهل، ولا نعرف نهاية ما يمكن أن نصل إليه.

أمام هذه الحقيقة التي لم يدركها جيلي بعد بشكل دقيق، أو لا نريد بوعي منا أن ندركها، إيمانا بدور يمكن أن نقوم به في حفظ ما استقر في أرواحنا وأيدينا جيلا بعد جيل ونخاف أن يتلاشى من بعدنا جراء عدم قدرتنا على تلمس معالم جيل مكتمل نثق به يمكن أن يخلفنا، إذ ما نراه وبخاصة من بداية الألفية الجديدة هو خديج من الأجيال المتتابعة التي لم نستطع الوعي بها ولا نعرف كيف نتواصل معها.

أمام كل هذا يجدر بنا أن نتوقف لنستوعب المشهد أولا حتى نتمكن من حماية أنفسنا بمنهج صارم ودقيق في ذات الوقت، أو لنغادر مستودعين الله أمانة تحملها الإنسان وكان ظلوما.

في هذا السياق بدأت أستوعب قيمة ما عمله القادة الصينيون حين أحاطوا مجتمعهم بسياج تقني وأوجدوا لهم وسائط تواصل اجتماعية خاصة بهم، وحجبوا أنفسهم عن كل مصادر المعرفة الغربية، رغبة منهم في الحفاظ على شخصيتهم وهويتهم، وأول مرتكز عملوا على ترسيخه في وجدان أجيالهم المعاصرة هو إيمانهم بلغتهم ومحافظتهم عليها، لأجل ذلك صاروا كما أرادوا، وحافظوا على وجودهم وانتمائهم لتاريخهم العريق وثقافتهم الأصيلة.

في الوقت الذي انجرف العالم الثالث صوب حضارة غربية متهالكة في منظومتها القيمية والأخلاقية دون تمحيص وتدبر، فكان أن فقد هويته تدريجيا، وبات مسخا من مسخ، وصار أبناؤه فاقدين لهويتهم الاجتماعية والتاريخية والثقافية وصولا إلى الدينية، بل وأصبحت منظومة القيم مشوشة في الأذهان، وذلك هو غاية التيه الذي يمكن أن تصل إليه البشرية في يوم من الأيام، وهو انحدار ينبئ بقرب النهايات على مختلف الأصعدة. وليت من يدرك ويعمل على إيقاف كرة النار المتدحرجة بقوة في غفلة غير مفهومة من الناس، وذلك هو لب الإشكال.

لقد عاشت الأجيال عبر تاريخها المديد ومنذ الألف الثالث قبل الميلاد وحتى منتصف القرن العشرين المنصرم في تراتبية مفهومة من حيث النشأة والتطور، الابتداء والانتهاء، وكان حجم التغيير بين الأجيال يتم بوتيرة بطيئة، وبالتالي فقد كان الجميع مكملين لبعضهم، ومواصلين فعل من سبقهم، بل نكاد لا نلمس تغييرا بين مختلف القرون على الصعيد العمراني، وطبيعة حياة الناس وتلقيهم للمعرفة، وبناء منظومتهم القيمية والأخلاقية والدينية كذلك.

ثم كانت العاصفة التي بدأت نذرها مع ابتداء القرن العشرين، حيث تسارعت الاكتشافات التقنية وصارت متاحة لعامة الناس مع حلول الربع الأخير من القرن العشرين، وصولا إلى الانفجار الكبير مع بداية الألفية الثالثة والذي لا نزال نعيش في جوفه حتى اليوم، ولا نعرف بوعينا الجيني إلى أين سنذهب؟ وكيف سيكون المصير؟ لكن حتما فطالما تستمر كرة اللهب في تدحرجها بقوة ودون أن نحمي أنفسنا منها، ودون أن تدرك أجيالنا القادمة خطورتها ومقدار حرارتها، فالأمر سائر صوب كارثة على صعيد منظومتنا القيمية ودورنا كخلفاء مستأمنين على هذه الأرض من لدن إله خالق أراد أن نعمرها، وأراد إبليس بحسده أن نفشل في مهمتنا، وذلك هو لب الحكاية التي ينساها الإنسان دوما.

أمام كل ذلك يمكن القبول بضمور حالة الثقافة ضمن ثنايا مجتمعنا بوجه عام، وفهم أسباب وجود الثقافة الرخوة كما جاء في مقال مجاهد عبدالمتعالي في جريدة الوطن الذي وسمه بعنوان «اعتذار إلى جيل الثمانينيات»، حيث وإن كانت الإسلاموية الحركية قد ساهمت في خلق قواعد الارتخاء في منظومتنا الثقافية باحتفائها بأسوأ أشكال المعرفة والإبداع انطلاقا من حزبية مقيتة تسمح بتجاوز كل مرتكزات الإبداع والمتانة العلمية في سبيل دعم المنتمي للحزب والأيديولوجيا، إلا أنها لم تكن السبب الوحيد في وجود هذا الخلل على الصعيد المعرفي إجمالا، ذلك أن قيمة الشيء في جوهره، وحين حدث الخلل في منظومتنا المعرفية بتولي الأقل كفاءة كان ابتداء الإشكال الذي نتلمسه اليوم بقوة.

ما أحوجنا اليوم إلى إعادة تصحيح بيادق الشطرنج بما يجب، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وكم هو معيب أن يكون المشتغلون في الثقافة من غير المنتمين لها بشكل حقيقي وليس وهمي، فالثقافة والتعليم هما عنوان حاضرنا ومكمن قوة مستقبلنا، فهل إلى ذلك سبيل؟

zash113@