مرزوق بن تنباك

المثقف المختلف

الثلاثاء - 06 سبتمبر 2022

Tue - 06 Sep 2022

لا تستطيع أن تحد المثقف أو تعرّفه ولا تستطيع أن تحد الثقافة أو تعرّفها، لكنك تستطيع أن تميز أفرادا ومعارف تختلف عن السائد والمقبول في المجتمع الذي يعيشون فيه، وأن تعرف من اتجاههم واختلافهم وأعمالهم وما يمكن أن تسميه ثقافة الفرد أو التيار الذي ينتمي إليه.

وإذا كانت الثقافة لا حد لها ولا تعريف متفق عليه فإنك لن تعرف المثقف بشكله ولا لونه ولا حسبه ولا نسبه، لكنك تعرفه جيدا حين يختلف عن الوسط الذي يعيش فيه أو تعرفه حين ينبذه المجتمع ويبعده ويتبرأ من أعماله وأقواله وقد يعاقبه ويحاسبه عليها.

كانت جدلية المثقف والمجتمع قديمة قدم الوعي البشري وقدم الحضارات والمعارف، فأثينا القديمة لم تستطع ثقافتها وديمقراطيتها تحمل سقراط وأسئلته الذي لم يفعل أكثر منها، ولم يتسامح المجتمع الأثيني المتحضر معه، ولم يعف عن خروج سقراط على تقاليده ومعارفه فحاكمه وجرعه السم بتهمة التهريج والسفسطة التي لا تليق في مجتمع أثينا الحر، ذهب أعضاء المحكمة الذين حكموا عليه بالموت وذهب المجتمع اليوناني الذي أيد الحكم وصفق له وأنهى حياة سقراط ولم يبق منه شيء، وبقي سقراط إلى اليوم تقرأ الأمم تهريجه -كما زعموا- وتعيد قراءته، وتنزله منزلة الفيلسوف المبجل.

ومثل سقراط وأثينا كانت روما البابوية وغاليلو العالم الفلكي الذي انضم إلى الكنيسة وأصبح أحد علمائها فلما اكتشف خطأ معتقداتها عن الكون والفلك وأعلن ما وصل إليه لم تستطع تحمله، ولا التسامح معه، فحاكمته روما كما حاكمت أثينا سقراط، وكان الحكم أخف قليلا من السم وهو الحبس في منزله ومنعه من نشر معتقداته التي تصحح ما تعتقده الكنيسة ورجالها، عاش غاليلو حتى منتصف القرن السابع عشر الميلادي، وعند وفاته لم تسمح الكنيسة بضم جثمانه إلى الردهة الرئيسة لكنيسة مقابر القساوسة، وبعد 350 سنة أدركت الكنيسة خطأ ما فعلت في حقه فاعتذرت إليه في نهاية القرن العشرين 1993م وأعادت جثمانه إلى الردهة التي كانت قد حرمت عليه يوم وفاته.

أما الحضارة الثالثة في التاريخ والعظيمة في السعة والانتشار فهي الحضارة الإسلامية، وهي كسابقتيها حضارة عميقة ثرية سادت العالم مئات السنين وضمت في سلطانها أجناسا وأمما ومعتقدات وأديانا أضعاف أضعاف ما في سابقتيها من الاختلاف والتنوع والتعدد، وجاء فيها مثل سقراط وغاليلو من العلماء الذين أثاروا صنوفا من الجدل عن كثير من المسلمات عند الناس وواجهوا مثلما واجه المثقف المختلف عند غيرهم، وكان جل هؤلاء من الفلاسفة وعلماء الطبيعة والطب والشعراء فصنفهم المجتمع وقسا عليهم وأحرق أعمال بعضهم وحكم بالزندقة والكفر على كثير منهم.

ذهبت الحضارة اليونانية إلى غير رجعة وبقيت آثار فلاسفتها وعلمائها وقودا للفكر الغربي المعاصر، وراجعت الحضارة المسيحية معارفها وصححت أخطاءها واعتذرت لمن أوقعت الضرر عليهم من أبنائها، والاعتذار يعد مراجعة وتصحيحا للمعلومات الخاطئة التي عانى الناس منها في الماضي.

ومن نافلة القول إن الدين المسيحي والدين الإسلامي وتعاليمهما الصحيحة غير مسؤولين عن فهم الشعوب والحضارات وثقافاتها حتى ولو كانت منطلقاتها الظاهرة دينية أو متلبسة في فهمهم غير الصحيح للدين، والاعتذار هو حماية للدين مما لحق به من أخطاء البشر وفهمهم الناقص لمراده.

والسؤال هل ستعتذر الحضارة الإسلامية للمعري وابن سيناء وابن رشد ولسان الدين بن الخطيب وسلسلة طويلة غيرهم، وحتى في الوقت القريب هل ستعتذر لمحمود محمد طه أو للعراقيات اليزيديات في مطلع القرن الواحد والعشرين وما فعلت بهم داعش محتجة بتعاليم الإسلام، والإسلام وتعاليمه براء منهم ومن أعمالهم واعتقادهم وفهمهم الناقص لما يقرؤون من نصوص التراث وما يفهمون وما يطبقون؟

Mtenback@