اماني يماني

والدي.. والعصر الذهبي

الاثنين - 05 سبتمبر 2022

Mon - 05 Sep 2022

فقط بعد وفاة والدي بدأت أعرف أنه كانت هناك فترة من حياتي أسميها "العصر الذهبي"، ولم أكن أعلم أن هذا "العصر الذهبي" سينتهي قريبا، كان والدي أبا، وجدا، وزوجا، وصديقا مخلصا للكثيرين، كان لديه حس دعابة عال، وضحكة قلبية، وشفقة لا حدود لها، وقدرة خارقة على إصلاح أي شيء، ومعرفة عميقة بالعالم، وكان معروفا بكرمه العاطفي، كان يهتم بشدة بالآخرين.

8 سنوات مرت على وفاته، تبدو لي كالحلم، ومازال حتى اللحظة تمر حوارات بيني وبين والدتي، ماذا سيكون رأي والدي في هذا الأمر، قبل يومين سألت والدتي، هل تعتقدين لو كان والدي حيا ستعجبه الرياض؟! وعملي في الرياض؟! فأجابتني ودمعة حبيسة تلمع في عينها، تعرفين والدك يحب الأمور الجميلة والتطور الحاصل حاليا كان أول من يعجب به.

أبي وما تعلمته منه

الكثير مما تعلمته في حياتي كان لوالدي الفضل فيه، التزامي بالوقت وذهابي للأماكن مبكرا، كانت عبارته الدائمة تخيلي لو تعطلت السيارة، لو صادفك زحام؟! المعلومات الرياضية الراسخة في ذهني حتى الوقت الحالي مازلت أذكرها، بالطريقة التي شرحها لي والدي، أذكر خلال أيام الدراسة كان والدي يستبق دروس الرياضيات الخاصة ويشرحها لي بطريقة مبسطة للغاية، تجعلني حتى وإن لم أفهم في المدرسة لا أبالي، فقد استوعبت طريقة واحدة في حياتي، وهي طريقة شرحه.

حب القراءة أظن أني تعلمته من والدي، انضمامي لقسم الرياضيات كان بسبب شغفي بطريقة والدي في تدريس الرياضيات وتبسيطها، فقد كنت أحلم أني سأدخل في السلك الأكاديمي كوالدي، صحيح أن المجال الأكاديمي كان حلمي ومازال حلمي، تأتي أوقات معينة أفكر في العمل تطوعيا في جامعة فقط لأمارس العمل الأكاديمي، ولكن ليست جميع الأحلام تتحقق، العديد من الأمور التي كنا نمارسها مع والدي مثل لعبة الشطرنج الدومينو، أذكر تعلمناها من خلال طقوس والدي الجميلة -رحمة الله عليه-، فقد كان قبل بدء الدراسة يحرص على إخراجنا يوميا وكان تبريره "المدارس قادمة لازم يغيروا جو".

خسارة البطل

مرت الأيام وسقط والدي مريضا، كنت حين أراه أستغرب كيف يمكن للمرض أن يسقط الإنسان، ويضعفه ويجعله عاجزا عن أداء أبسط الأمور، وطال مرضه، كيف يمكن للمرض أن يضعف العقل لهذه الدرجة، حتى أتت النهاية.. عندها فقط بدأت أعرف الحزن، واتسمت الأسابيع التي تلت ذلك بلطف الأصدقاء والعائلة.

أكثر ما فاجأني بهذه الخسارة هو فقدان اهتمامي بالشيء التافه، والشعور بأن هناك بعض العوائق بيني وبين العالم، أفتقد يديه، وأصابعه الطويلة، والدفء الذي بها، أفتقد لغته، وتلك الأقوال التي لا يقولها أحد آخر بنفس الطريقة. أفتقد نكاتنا وتعليقاته على أمور الحياة، وأفتقد صوته وعمقه ونعومته وجرسه. أفتقد لطفه، ورائحته، وضحكته، وجديته، وبطء نظره، وتعاطفه مع المستضعف، وإيمانه البسيط الذي يسهل الوصول إليه.. في الغالب، أعلم أنني أفتقد والدي.

تعلمت بعد رحيله أن الندم هو أسوأ المشاعر التي يمكن أن تحدث لشخص ما، ويؤسفني عدم السماح لوالدي بمعرفة مدى حبي له عندما كان لا يزال هنا. تعلمت أن الحياة ليست عادلة على الإطلاق. قد يبدو هذا سلبيا لكن هذا هو الواقع، سيتعين عليك العثور على أفضل طريقة للخروج والاستمرار في سير الأمور.. لقد تعلمت أن الناس يحبونك، ويقولون أشياء جيدة عنك ولا يشتاقون إليك إلا بعد وفاتك للأسف.

الإدراك

كانت تلك هي اللحظة التي أدركت فيها أن موت والدي لم يكن يؤثر عليّ عقليا وعاطفيا وروحيا، كما كان يؤثر علي جسديا وكان علي بالتأكيد إجراء تغيير في حياتي، فالتعامل مع الموت هو عملية قد تستمر بشكل جيد للغاية حتى سنوات لاحقة من الحياة، وهي عملية تتطور باستمرار. لقد استغرقت دقيقة للتفكير في الأعوام الثمانية الماضية، إليكم بعض الأشياء التي تعلمتها عن التعامل مع الموت خلال تلك الفترة:

- الانفتاح والتحدث

على الرغم من أنني أقدر الرسائل ورسائل البريد الالكتروني ورسائل البريد الصوتي من الأصدقاء التي تقول "آسف على خسارتك" وتخبرني أن أخبرهم إذا كنت بحاجة إلى أي شيء، فإن كل رسالة تلقيتها كانت أيضًا بمثابة تذكير لاذع بحدوث ذلك. كنت في حالة إنكار، ولم أرغب في مواجهة حقيقة حدوث ذلك، كرهت فحص هاتفي فقط لأرى تذكيرات مستمرة بوفاة والدي. وهكذا أغلقت نفسي عن كل من أعرفه، لم أتحدث عن ذلك، وبدا للآخرين أني لم أحزن لوفاته، قد استوعبت كل هذا الألم لأستيقظ، وأرسم ابتسامة بلاستيكية على وجهي واستمر في حياتي..

سمح لي الانفتاح على مشاعري ببدء عملية الشفاء. استغرق الأمر مني أكثر من عام ونصف، لكنه كان في وقتي الخاص، وعندما كنت مستعدة للانفتاح، فعلت ذلك.

- السماح لنفسي بالانهيار

"أماني، توقفي عن البكاء. كوني قوية من أجل عائلتك". هذا كل ما سمعته من الأقارب والأصدقاء، هل تعلم ماذا فعلت؟ تظاهرت بأن كل شيء على ما يرام لأنني لا أريد أن أبدو ضعيفة وعرضة لأمي أو لأخوتي، لم أستطع جعلهم يقلقون علي، لم أستطع أن أسبب لهم المزيد من الألم أو القلق من خلال إخبارهم بأنني كنت في خضم سباق طويل من الانهيار العاطفي.

فاحتفظت بكل شيء في الداخل ولم أظهر لهما أبدًا كيف كنت أشعر بالضيق، وبالتالي قمت ببناء زنزانة عاطفية من حولي، حتى أنني لم أعطهم فرصة ليكونو هناك من أجلي، وقد بدأ ذلك فقط في سلسلة من ردود الفعل. دعم أحبائك يدور حول الأخذ والعطاء، عندما تسمح لنفسك بأن تكون عرضة للخطر، فإنك تدعو الآخرين ليكونوا عرضة للخطر من حولك.

- السماح لأصدقائي بأن يكونوا هناك من أجلي

كنت دائمًا الشخص الذي يشعر بعدم الارتياح عند طلب الأشياء من أصدقائي. إذا كنت بحاجة إلى شيء ما ، فأنا متردد في سؤال أي شخص، على الرغم من أن كل ما أردته هو أن يستمع لي أحدهم بينما أتنفس عن إحباطاتي وألمي، لم أرفع سماعة الهاتف مطلقًا وأتصل بأصدقائي، ولم أجب عندما اتصلوا بي، دخلت دورة المياه وأغلقت الباب، وبكيت حتى أصابني الصداع، وكنت أوقات أترك دموعي تهرب خلسة على وسادتي ليلا دون أن يراني أحد.

لم أسمح لأصدقائي بالتواجد من أجلي، حتى لو كان يرسل رسائل نصية فقط ذهابًا وإيابًا، وحين أدركت فداحة الأمر منذ ذلك الحين، أعدت الاتصال بأصدقائي ببطء، وكلما واجهت مشكلة، أسمح لأصدقائي بالتواجد هناك من أجلي من خلال الانفتاح عليهم. إنه شعور رائع أن تعرف أن لديك أشخاصًا في حياتك سوف يساندونك بغض النظر عما تمر به، لكنك لن تعرف ذلك أبدا ما لم تسمح لهم بالدخول.

- أن أفعل ما أحب

يعتبر فقدان أحد الأحباء بمثابة تذكير مؤلم بأن الحياة هي طريق جدا قصير، وهذا الشخص المحبوب لا يريد شيئًا أكثر من أن تكون سعيدًا، ليس المخفف نصف الابتسامة، أو السعادة اليومية بالمحتوى، ولكن السعادة حقا.

اعتاد الناس أن يقولوا لي "اشغل نفسك". أوافقهم الرأي، لكن لا تشغل نفسك بفعل شيء لا يجعلك سعيدا. كنت أذهب إلى وظيفتي كل يوم لأشغل نفسي، لكن ذلك جعلني أكثر بؤسا، لم يجعل الوقت يمر بشكل أسرع، لقد جعل كل يوم يبدو بلا معنى أكثر فأكثر.

اجعل نفسك مشغولاً بأخذ الوقت الكافي لاكتشاف ما تحبه، ضع أهدافًا وابن خطة لجعل أحلامك حقيقة.

أليس هذا هو الوقت المناسب لك لتعيش مع هدف؟ لتحفيز نفسك، احتضن قوتك المكتشفة حديثًا واغتنم الفرصة للاستيقاظ كل صباح ممتنًا؟ ما الذي يجعلك سعيدا؟ تركيز طاقتك على السعي وراء الحلم هو طريقة إيجابية لرد الجميل لنفسك لأنك تستحقها.

- اعتز بذكريات من أحب

كان هناك وقت لم أستطع فيه التركيز على أي شيء سوى مشهد والدي في سرير المستشفى. أغمض عيني في الليل ولم أرَ سلوكه المبتسم والمحب، أو أسمعه يضحك على نكاته كل ما رأيته كان في سرير المستشفى قبل لحظاته الأخيرة، لقد حطم قلبي كل يوم، لذلك حاولت أن أنسى.

كنت منغمسًا في فكرة وفاته لدرجة أنني لم أعطي نفسي فرصة للاحتفال بحياته، لم أستطع حتى أن أعتز بالذكريات التي كانت لدينا خلال فترة وجوده في العالم لأنني ملأت ذهني بكل جانب من جوانب وفاته.

ما مدى أنانيتي عندما أتغاضى عن أعوام عديدة من حياته وأبعد كل تلك الذكريات الرائعة بعيدًا لمدة ساعتين؟ أدركت أن والدي لن يموت حقًا، لا يزال معي في الروح، أجل أجل، لكن ماذا يعني ذلك؟

علمني والدي كيف أحب بلا أنانية، لقد ضحى بحياته من أجل عائلتنا، وسوف يعيش من خلالي، سيستمر إرثه من خلال عملي، وبسببه سأعرف كيف أحب عائلتي بنكران الذات -بالطريقة التي أحبنا بها-. لقد كان وسيظل دائمًا حافزي للقتال من خلال النضالات والعمل الجاد والتصرف بدون خوف والابتسام من خلال الألم والحلم بشكل أكبر وتحقيق هذه الأحلام.

- منح النفس الوقت للشفاء

لا توجد ساعة حائط سحرية وغير مرئية تدق وتضغط عليك لتجاوز الأمر وترشدك للتعامل مع وفاة أحد أفراد أسرتك. لا يوجد أحد يخبرك أنك بحاجة إلى تجاوز مرحلة "الغضب" أو "المرحلة المرتبكة" بحلول الأسبوع أو الشهر أو حتى العام المقبل. يُسمح لك بأخذ الكثير من الوقت الذي تحتاجه للشفاء، لا تعتقد أنه يتعين عليك العودة إلى الوضع "الطبيعي" فهذا لن يحدث أبدًا، وهو أمر جيد للغاية. الألم الذي تشعر به عندما تفتقدهم لن يزول أبدًا، لكن هذا جيد. لأنك أقوى مما كنت عليه في حياتك، وأنت قادر على فعل أشياء لم تكن قادرًا على فعلها من قبل.

لا يتوقع منك أن تكون مثاليا. كفاحك يبني شخصيتك، وخبراتك تجعلها فريدة من نوعها، أنت معقد ومعقد ومحنك وجميل. لا تخجل أبدًا من ماضيك، فقط تذكر أن قرار بدء عملية الشفاء متروك لك تمامًا، لذلك عندما تكون مستعدًا اخرج إلى هناك واغتنم الفرصة لتجد السلام بعد الألم.
***********************


قد يكون من الصعب قبول الحقيقة المفاجئة المتمثلة في عدم القدرة على الدردشة مع والدتك أو والدك مرة أخرى. لبعض الوقت بعد فقدان أبي، ما زلت أتحدث معه، سألته عن رأيه في شيء ما، لكنني بالطبع لم أتوقع إجابة. كانت طريقة لإخراج الكلمات التي كانت بالفعل بداخلي لأقولها، لا تخف من حقيقة وفاة والديك. قم بزيارة القبر ودردش معهم بالأفكار. كل ما يجعلك تشعر بالراحة، فهي لا تحافظ على ذاكرتهم حية فحسب، بل إنها أيضًا تنفيس عن مشاعرك.



***********************


مع تقدمنا ​​في السن، يمكن أن تتغير آراؤنا وتوقعاتنا للحياة. وتعتبر وفاة أحد الوالدين واحدة من تلك التجارب التي ستغيرك. أصبحت أكثر تسامحًا لأنه تم وضع تفاهات الحياة في سياقها.

نحن نقلق بشأن عدم الالتزام بالمواعيد النهائية أو التأخر عن حدث ما أو حدوث عطل في الجهاز الجديد، الأحداث التي تزعجنا يوما بعد يوم تتضاءل إلى حد التفاهة.

قدر كل لحظة من لحظات الاستيقاظ واستمتع بها، ودع الجديد ينتزع كل يوم ثمين بشغف.
***********************

افتح فصلًا جديدًا. غالبًا ما يشطب المجتمع وفاة أحد الوالدين على أنه الترتيب الطبيعي للأحداث، لكن أولئك الذين جربوها يعرفون كيف تغير الحياة، فتشعر بالألم والخسارة لأن لديك قلبًا ولكن هذا القلب أقوى مما تتخيله.

​​​​​​​***********************

كل ما يجب أن نتذكره وبالأصح هو ما أتذكره، والدي كان دائم الفخر والسعادة بي، فكل ما أراده والدي هو أن انجح في حياتي وأن استمر، فكل نجاح يحدث لي ماهو إلا خطة من خطوات أن يتفاخر بي والدي، فكل ما استطيع أن أقوم به الآن، أن اتذكره في دعائي، أتصدق عنه، وأنجح في حياتي. رحمك الله يا أبي أينما كنت.

إضاءة: لا تدع الحزن يغلفك عن الحياة، ويبعدك عنها، بل اجعل حياتك علامة فارقة بتذكر جميع أحبائك.