شروق المحمادي

آلهة الزمان

الجمعة - 02 سبتمبر 2022

Fri - 02 Sep 2022

لما امتزجت الأكوان في نسيج واحد مرن، أتى ما لا يرى وما لا يسمع، ففصل بين الأكوان، وقدم الأبدية في كون وسبقت العدمية كونا آخر، ثم الذي لا يرى ولا يسمع بث روحه في الحياة فولد النهار، وخلق الليل، ثم جاء الإنسان وصنع فواصل دقيقة في النهار من اثني عشر رقما ووضع لليل اثني عشر رقما.

الزمان مختبئ في كل الأكوان، لا يُرى ولا يُسمع، لا يحب ولا يشتاق، ما عنده أحباب، وحيد ما استوحش وحدته، رهيب أفزع الخلائق، خافه النهار وود الليل تودده، تعلق وجود الكائنات به كأنه أم لأولاد الوجود، وظهر للكائنات أنها معلقة بالزمان أبدا، تحت قهره وسلطته، فإن مشى جرت خلفه الكائنات، وإن جرى سكنت الكائنات جوارحها وسيرها.

ثم في كون يظن أنه الوحيد، تشمخر الشمس أنفها في كبرياء، وتصعر الأرض خدها للفضاء ويزهو القمر بين الاثنين، يضع الإنسان مقاييس وأدوات للزمن يظن المغفل أنه قد كشف مكان مبيته ولا غرو! كائن يرى ذاته أصل الأرض، والأرض أصله لو فكر، يمشي على الأرض بتغطرس وينسى أن الموج أغرقه، والحفرة ابتلعت وجوده، والبئر جفف بريقه، والأسد أكلته والذئاب افترسته، والحوت عطره، والقز هندامه، والخشب والحديد والشجر والصخر والرمل والماء ملجأه الذي يبيت ويأكل عليه وفيه.

وكان الزمان يضحك بقوة على ساعاتهم، ويضحك أكثر عندما يدركه الجميع، وهو لا يدركهم. ينظرون إليه وهو لا يبالي بهم، كان يضحك؛ لأنه ليس في هنا ولا في هناك وهم خلق يرون خياله في كل مكان يعبدون عقاربه يستبشرون بأرقامه ويتطيرون من أيامه يحلفون بكانونه ويحفلون في نيسانه، وهم في نسيانه. وكان يضحك عندما يبكي من فاته القطار، ويتعجب من تملل الانتظار، ويحزن على الطفلة وقد أوصدت المدرسة أبوابها لأن الساعة 7:47 صباحا. ويشتد الزمان ضحكا على ممرضة تحاول إنقاذ الوقت من عوتقة مرضاها. وما كان يبكي الزمان على ولادة الرضيع بل على قول أبويه: إنه في شهره الرابع.

كان الزمان يضحك على أوهام الساعة وخرافة الوقت.

كان حاضرا في أذهان الإنسان، ماكثا في قلب الحيوان، يأمر الزهرة بأن تتجمد في شتائه، وينهاها عن تجريد ثيابها في الربيع ولا بأس من شق جيوبها وكشف صدرها للشمس تلثم الحرية في جباه الهواء وعلى مبسم الشفق وثغر الوجود وشفة الغيب والقدر، وفي الصيف يضرب الزمان سوطه على النهار فيطول، ويغضب فتبكي الأجساد، ويجفف الأنهار ويسيل الرؤوس وتجف العروق وتعطش الكائنات؛ ثم في الخريف يرضى عنهم فيرفع عذابه عن النهار ويعتدل مع الليل في عرس واستقرار، وينهى الطيور عن المبيت والاستقرار، ويرفع أوامره للسماء: أجلي كل سحاب وغيمة فورا.

فتصفو السماء خاضعة له وهو يضحك في مكر وخبث.

كان الزمان يضحك على ضحكته، ويضحك على بكيته، لا يشعر بوجوده والجمع برهن على حضوره، ولا يؤمن بحقيقته والكل صرعى في نزاع أحقيته، ولا يقيم قيمة ومآتم لماهيته والكل منخرط في جزئياته يصرخ ويصدح ويصيح وينهار ويغرد ويطرب في جنون ووهم.

والحقيقة أن الزمان مشرد في الفضاء، لا يملك أمرا ولا نهيا، ولكنها سلطة الأوهام وسياط الخرافة إذا انتشرت بين الجماهير وهام بها العالم والقسيس والفيلسوف الكبير، وأصبحت عقيدة لا تفك لها عقد، نفثت الإيمان ساحرة تمائمها فيه، وربطت التكرار عقدة أخيرة بلا بداية ولا نهاية. فجذبت الحبيب، وقذفت البعيد فالتهمته الشياطين، والبعض نفقوا وأراحوا على عظامها وأشلاء هياكلها يحضنونها كأنهم طفلة نامت في الصعيد مع عروستها الذهبية، وأوذي من حاول فكها أو وقع لثم فكها، أسر تعويذاتها.. فقل أعوذ برب الفلق!