عصام الزامل

كاد المصنع أن يكون رسولا

مكاشفات
مكاشفات

الأحد - 21 أغسطس 2016

Sun - 21 Aug 2016

في بداية السبعينات الميلادية من القرن الماضي، قررت غانا زيادة الاستثمار في التعليم، رغبة في تحفيز نموها الاقتصادي على المدى الطويل. في نفس الفترة كانت غانا وتايلاند بنفس المستوى التعليمي، وذلك بمعيار متوسط عدد سنوات الالتحاق بالمدارس، وكانت غانا متفوقة على تايلاند في معدل دخل الفرد من الناتج المحلي وهو المعيار الأفضل للمقارنة بين اقتصاد دولتين، حيث كانت حصة الفرد في غانا حوالي 257 دولارا مقارنة بـ192 دولارا للمواطن التايلاندي.



وبعد حوالي 15 سنة - عام 1985 - نجحت غانا في التفوق على تايلاند بعدد سنوات الالتحاق بالمدارس.



في المقابل، ركزت تايلاند في نفس الفترة على توسيع القاعدة الصناعية لديها وزيادة صادراتها من السلع للعالم. وبلغت صادرات تايلاند في 1985 أكثر من 7 مليارات دولار، بينما لم تتجاوز صادرات غانا في تلك السنة 500 مليون دولار.



فما الذي حدث لاقتصاد الدولتين في الثلاثين سنة اللاحقة (2015)؟



استطاعت تايلاند أن تنمو باقتصادها ليصل معدل دخل الفرد من الناتج المحلي لأكثر من 5700 دولار للفرد، بينما لم يتجاوز الرقم في غانا 1900 دولار للفرد. أي أن دخل الفرد من الناتج المحلي في تايلاند وصل لأكثر من ثلاثة أضعاف دخل الفرد في غانا. كيف تفوقت تايلاند على غانا اقتصاديا رغم أن غانا كانت السباقة في رفع المستوى التعليمي لمواطنيها؟



نجد الجواب لدى الاقتصادي الشهير ريكاردو هوزمان الذي يعمل مديرا لمركز هارفارد للتنمية الدولية، والرئيس السابق للجنة التنمية في صندوق النقد الدولي، يفسر هوزمان هذا التباين الكبير في النمو الاقتصادي بين غانا وتايلاند بأن المعرفة المنتجة أهم بكثير من المعرفة التي نكتسبها من خلال التعليم التقليدي، وهذه المعرفة المنتجة لا يمكن اكتسابها إلا بالممارسة.



يقول هوزمان إننا قادرون على توقع النمو الاقتصادي لأي دولة بشكل أدق بكثير من خلال قياس ما تصنعه تلك الدولة وحجم صادراتها وتنوعها، فما تصنعه الدول يمثل المخزون المعرفي المنتج الأكثر قيمة بالنسبة إلى الاقتصاد.



ما تصنعه المجتمعات وتصدره هو التجسيد الحقيقي لمخزونها المعرفي، وما تحتاجه المجتمعات لتكتسب تلك المعرفة لا يمكن أن نجده في صفوف المدارس، ولكننا نجده في خطوط الإنتاج. وذلك لأن المعرفة المنتجة (أو معرفة - كيف know-how) هي معرفة ضمنية (tacit knowledge) لا تكتسب إلا بالممارسة ولا يمكن نقلها بالمحاضرات أو الكتب.



تايلاند قررت تحويل كل اقتصادها وقطاعها الخاص إلى مدرسة كبيرة، يتعلم من خلالها الشعب كيف ينتج، مدرسة كبيرة تمنح كل فرد فيها معرفة منتجة مميزة تختلف عن الآخر، وتمنحه القدرة الحقيقية على أن يكون عنصرا فاعلا، بينما ركزت غانا على صناعة نسخ مكررة تحمل نفس المخزون المعرفي النظري، وهو مخزون لا يمكن بذاته أن يحول غانا لدولة صناعية منتجة.



هذا لا يعني بأي حال من الأحوال التقليل من أهمية التعليم التقليدي، فحتى العامل على خط الإنتاج سترتفع قدرته الإنتاجية وقدرته على تسريع اكتساب المعرفة المنتجة إذا امتلك المهارات الأساسية مثل القراءة والكتابة والحساب، ومن يدرس الهندسة الصناعية في الجامعة - على سبيل المثال - يملك قدرة أكبر على تحسين كفاءة الإنتاج في خطوط الإنتاج - إذا اقترن تعليمه بالممارسة.



لذلك فنحن لا نحتاج التعليم التقليدي لإشعال شرارة النمو الاقتصادي، وإنما نحتاجه لإبقاء شعلته متوهجة. ولكن التركيز على التعليم التقليدي والاعتقاد بأنه قادر بذاته على تحويل المجتمع لمجتمع منتج، هو الاعتقاد الذي يجب الحذر منه. والأخطر من ذلك هو أن نبرر تخلفنا من الناحية الإنتاجية بسوء التعليم التقليدي، نحن تخلفنا إنتاجيا.. لأننا ببساطة لم ندخل المدرسة الحقيقية... المصنع.



[email protected]