محمد أحمد بابا

يسألونك..

الاحد - 21 أغسطس 2016

Sun - 21 Aug 2016

هناك شباك تنصب في كل مرامي الأسئلة التي توجه لمن تصدروا للكلام عن الدين في كل الوسائل الإعلامية والتواصلية، ولا يخفى على أي أحد ما يقصده كثير ممن يعلمون من الجواب أكثر من الذي يسألونه لكنهم يحاولون بهذه الطريقة أن يستذكروا دروسهم على حساب رؤوس اليتامى وعثرات الغافلين.



عندما كانت ذاكرتنا بيضاء كانوا يعلموننا في المرحلة الثانوية الشرعية تأصيل المسائل وتحرير محل النزاع قبل خلاف علماء أو اختلاف عوام، وكان أولئك المعلمون يزرعون في أنفسنا مجالا كبيرا بأن الاستفتاء يشبه الفتوى وذلك لأن القاعدة الأصولية تقول بأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.



وأذكر أن المراقبين زمن الامتحانات كانوا يكررون على أسماعنا: «يا بني فهم السؤال نصف الإجابة» وكنا نحتار في تحصيل هذا النصف الذي اعتبرناه أثمن من كل المعلومات التي نحفظها طوال العام.



غير مقبول أبدا أن تسأل عن شيء وأنت تريد خيانة من تسأله، وغير منطقي نهائيا أن تستخدم ذكاءك في المراوغة ليكون سؤالك حمال أوجه وصاحب احتمالات، وثلاثة أرباع أهل التربية والتعليم يعتبرون هذا النوع من المخادعة ظلما للنشء وتغريرا بأمانة التعليم، وما أهلك من كان قبلنا إلا اختلافهم على أنبيائهم وكثرة أسئلتهم فيما يعلمون، وغير مستساغ أن يكون الجدل البيزنطي «عن البيضة والدجاجة» بعضهما من بعض هو سمة الاستفتاء.



نخشى أن نكون يوما من الذين «جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا» نتيجة ما يقوم به بعضنا من تسخير قدرتهم على استخدام الغريب من التساؤلات والعجيب من الاستفتاءات كوسيلة للوصول إلى هنات المتطوعين وزلات باذلي العلم الشرعي ومحبي الخير للناس، ولا ننكر بأن في هؤلاء خيرا وفي أولئك خيرا وفي القسمين مظنة للخطأ والصواب لكن الموضوعية في الطرح ذهب الحوارات.



هناك فرق كبير بين سائل يسأل عن حكم صلاة الظهر؟ ومتسائل يتساءل عن حكم ترك صلاة الظهر؟ ولا شك بأن هناك فارقا بين مستفت يستفتي عالما عن الذي عليه وقد تخطى الميقات ولم يحرم؟ ومتظاهر بالاستفتاء يستحلي أن يسأل عن الإحرام قبل الميقات في خط الطول المحاذي له وهو في طائرة تقصد البقاع المقدسة؟ ولا أظن بأن أحدا لا يقدر البون الكبير بين سؤال يقول ما حكم الحجاب؟ وسؤال آخر يقول ما حكم كشف المرأة لوجهها؟ وبين سؤال فحواه ما حكم عمل المرأة مع الرجال وعمل الرجل مع النساء؟ وآخر نصه ما حكم الاختلاط؟ واللبيب بالأسئلة يفهم.



في أمثال أهلي وعائلتي يقولون «بأن من غلبته الدنيا يدعي بأن الآخرة قد أتت» وحال هؤلاء قريب من مضرب هذا المثل، لأن غالب الخاسرين في صولات وجولات الخصام غير المبرر وغير المفهوم بين تصنيفات ما أنزل الله بها من سلطان يلجؤون للأحكام الشرعية وما فيها من خلافات جزئية - لا تفسد بحال مقاصدها - ليظهروا عيبا غير موجود في أصل النقاش بل عيوبا جبل عليها كل بني آدم الذين قال الله عنهم «ولذلك خلقهم» ولكن القوم مصرون وماضون.



يجب على كل المتعلمين والمثقفين أن يولوا اهتماما كبيرا للأسئلة التي يطرحونها في أي ميدان أو مجال وخاصة الشرعي من ذلك، وهذا يتوافق مع ما هم مقتنعون به مسبقا في شتى العلوم من مصداقية وتحديدات ومباشرة لا لبس فيها ولا غموض، فلماذا لا يكون «اللف والدوران» إلا حين يكون السؤال عن أمر ديني أو حكم شرعي؟



ربنا تعالى في تنزيله الحكيم على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أفتى كل السائلين وكل المتسائلين بما يناسبهم من مقال وعبر عن كل ذلك بقوله حينا «يسألونك» وحينا «يستفتونك» وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يخبرهم بالجواب بقوله «قل» في إجابات دامغة راسخة واضحة، وهذه الأساليب تشعرنا بأن لا مجال للغموض حين تكون الأسئلة محققة للمصلحة، ولا مجال للإجابة حين تكون الأسئلة نوعا من كسب الوقت والتنصل من الواجبات.



أعترف بأن الحالة التي وصلنا إليها في مثل هذا اللغط من أسبابها عدم الاهتمام بالفتوى كمهنة وعلم منفصل تماما عن مجرد العلم الشرعي ليصدق ما أخبرنا به الحديث الشريف بأن أزمنة ستأتي بأقوام يشهدون قبل أن يستشهدوا ويفتون قبل أن يستفتوا، وأعترف كذلك بأن زمنا مر على المتحدثين بالإفتاء له من التزمت والتشدد ما له، لكن التجرؤ على الدين يختلف عن التجرؤ على المتدينين عند الحصيفين من الخلق.

[email protected]