فهد إبراهيم المقحم

«الذكاء الجمعي» لتعزيز القدرات وجودة الحياة

السبت - 27 أغسطس 2022

Sat - 27 Aug 2022

يعد الذكاء الجمعي (Collective Intelligence) عاملا مؤثرا لسنوات عدة في تطوير مجالات مختلفة، مثل: العلوم الاجتماعية، والأحياء، وعلوم الحاسب، والهندسة، وغيرها؛ وله الأثر البالغ في تحسين البرامج والخدمات بما يعزز القدرات ويرفع من مستوى جودة الحياة.

فماذا نعني بالذكاء الجمعي؟

هو مفهوم انبثق من علم الاجتماع يشير إلى القدرة العالية الناتجة من تعاون مجموعة كبيرة من العقول لتحقيق نتائج فائقة، مثل: آراء دقيقة وشاملة، أو تنفيذ مهام كبيرة ومعقدة، أو التحسين المستمر استجابة للمتغيرات والمتطلبات، أو توليد أفكار إبداعية متقدمة.

وبالنظر إلى هذا التعريف، يمكن القول بأن أثر «الذكاء الجمعي» وتطبيقاته موجودة من قديم الزمان، فالناس اعتادت على أن تتشارك في الرأي وتتعاون في العمل، سواء كان ذلك ضمن نطاق العائلة أو الحي أو بيئة العمل أو المجتمع بأكمله، وديننا الحنيف عزز من ذلك في مواطن عدة، مثل قوله تعالى: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾، وقوله تعالى: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى﴾، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا».

الأمر لا يتعلق فقط بعالم الإنسان، بل إن الباحثين وجدوا أثر تطبيقات «الذكاء الجمعي» في عالم الحيوان كذلك، فمثلا، في عام 1910م لاحظ عالم الحشرات ويليام ويلر أن النمل يعمل بتناغم تام وكأنك ترى جسدا واحدا يقوم بتنفيذ مهام معقدة لا يمكن للواحد منها تحقيقه. مثال آخر، في عام 2012م استفاد لي بي وونغ، أستاذ علوم الحاسب بجامعة سينز الماليزية، من عمل النحل المتناغم عند جلب الطعام للخلية في ابتكار نموذج فريد لإيجاد الحلول المثلى ضمن مجموعة ضخمة من الخيارات المحيرة (Combinatorial Optimization Problems)؛ هذا النموذج يسهم في تحسين أعمال وإجراءات مجالات عدة، مثل: الصناعة والخدمات اللوجستية.

نشأت بذرة دراسة وتطوير مفهوم الذكاء الجمعي في القرن التاسع عشر حين نشر العالم الفرنسي نيكولاس دي كوندورسيه مقالة حول تحليل احتمالات قرارات الأغلبية. وفي بداية القرن العشرين، طلب العالم الإنجليزي السير فرانسيس غالتون من نحو 800 فردا تخمين وزن ثور في معرض للماشية. بطبيعة الحال لم تفلح المحاولات الفردية ولم يستطيع أي واحد منهم تخمين الإجابة الصحيحة، وهي 1198 رطلا، ولكن المفاجأة حينما قام غالتون بحساب متوسط تخميناتهم، والبالغ 1197 رطلا، ليكتشف أنه تقديرا مقاربا جدا للصحة. هذه التجربة أعيدت عدة مرات من قبل باحثين في أماكن متفرقة وفي أوقات مختلفة، لتحقق في نهاية المطاف ذات النتائج المدهشة. تعد هذه التجارب أمثلة حية لما عبر عنه الصحفي الأمريكي جيمس سورويكي في كتابه «حكمة الحشود»، إذ يجزم أنه في ظل الظروف المناسبة، تكون المجموعة أكثر ذكاء من أذكى الأفراد فيها.

أدى انتشار الإنترنت وظهور التقنيات الحديثة في مطلع القرن الواحد والعشرين إلى بزوغ أشكال جديدة وأكثر فاعلية للذكاء الجمعي، وهي ما أطلق عليها مركز الذكاء الجمعي في جامعة MIT العريقة مصطلح «العقول الخارقة SuperMind»؛ فالعقول البشرية لم تعد وحدها في منظومة الذكاء الجمعي، بل تشاركها الآلات والتقنيات في تحقيق نتائج أكثر ذكاء من ذي قبل. فمثلا، استفادت قوقل من ملايين المستخدمين لتكوين قواعد بياناتها وفهرسة مصادرها، وأيضا، في تعليم الآلة لتحسين نتائجها البحثية وتوليد ردود ذكية على استفسارات المستخدمين. وقس على ذلك منصات عديدة تستخدم أنظمة التوصيات في اقتراح التفضيلات للمستخدمين، مثل أمازون ويوتيوب ولينكدإن وغيرها. مثال آخر، ويكيبيديا، والتي تعد اليوم أكبر موسوعة في العالم، تحتوي على نحو 60 مليون مقالة ذات جودة عالية، وبأكثر من 300 لغة، بنيت تشاركيا من قبل ملايين المستخدمين حول العالم. من الأمثلة أيضا، الشبكات الاجتماعية، مثل تويتر وانستقرام، فملايين المستخدمين اليوم يسهمون في بناء محتوى حول قضية عامة أو جائحة عارمة من خلال المشاركة في الهاشتاقات الموحدة؛ هذه المشاركات لا تصنع محتوى للقراءة فقط، بل تتيح فرصة للمختصين لدراسة المجتمعات وتغيراتها عبر التاريخ.

تطبيقات الذكاء الجمعي لا تنحصر فقط على بناء المحتوى وتحسين النتائج والتوصيات، بل تتجاوز ذلك إلى عدة مجالات، فعلى سبيل المثال، تتيح منصة InnoCentive للمنظمات طرح المشكلات والتحديات التي تواجهها بهدف تحفيز أكثر من 500 ألف شخص حول العالم للمساهمة في إيجاد الأفكار الإبداعية لحلها. كما تسهم منصة Amazon Mechanical Turk في تنفيذ أعمال المنظمات من خلال تمكينهم لطرح أي مهمة يتم تنفيذها عن بعد من قبل أفراد حول العالم مقابل مبلغ مالي يدفعه طالب الخدمة. أيضا، تستفيد شركة صناعة الملابس Threadless من الذكاء الجمعي من خلال فتح المجال لآلاف المصممين حول العالم بطرح تصاميمهم المقترحة التي يتم التصويت عليها بشكل دوري من قبل المستخدمين، والتصاميم التي تحقق أعلى النتائج يتم تبنيها لصناعتها ومشاركة الأرباح مع مصمميها، لتحقق الشركة من خلال هذا النموذج جني ملايين الدولارات سنويا وبعدد قليل جدا من الموظفين!

وفي عالم القطاع الثالث، تسهم تطبيقات الذكاء الجمعي في تحفيز الأفراد للمشاركة في المشاريع التطوعية، فمثلا، المشروع الفلكي Galaxy Zoo والذي أطلق بهدف دعوة المتطوعين للمشاركة في تصنيف صور فلكية لنحو 100 ألف مجرة، استقبل المشروع في عامه الأول فقط أكثر من 50 مليون تصنيفا، بمساهمة أكثر من 150 ألف مشارك حول العالم، قام بعض الباحثين بدراسة وتحليل هذه التصنيفات، فوجدوا أن الجمهور العام قادر على تصنيف مجموعة كبيرة من المجرات بدقة مماثلة لدقة علماء الفلك.

مثال آخر، مشروع reCAPTCHA الذي أطلق في نسخته الأولى بهدف رقمنة آلاف الكلمات المصورة والتي لم تفلح التقنيات من رقمنتها بشكل آلي، ولزيادة الدافعية لدى المواقع الالكترونية المستهدفة، يقدم المشروع خدمة أمنية لتلك المواقع من خلال عرض كلمتين، الأولى بهدف التحقق من أن المستخدم بشري وليس تطبيق آلي، والثانية هي الكلمة المستهدف رقمنتها، ساهم المشروع في رقمنة أرشيف عدد من الجهات مثل: نيويورك تايمز وكتب قوقل المصورة، بمشاركة ملايين المتطوعين وبدقة تصل إلى 99%.

على الصعيد الوطني، فهناك تطبيقات حكومية استثمرت الذكاء الجمعي لتحسين مستوى خدماتها، مثل كلنا أمن، وبلدي، ووطني، والمنصة الوطنية للعمل التطوعي؛ إلا أنه لا يزال هناك مساحة واسعة وفرص واعدة من خلال تفعيل أمثل لتطبيقات الذكاء الجمعي، وبأقل الإمكانات، بما يعزز من القدرات ويرفع من مستوى جودة الحياة، سواء كان ذلك في مجال تقييم الخدمات أو المنشآت، أو تعزيز التطوع والمشاركة المجتمعية، أو تنمية السياحة الداخلية واكتشاف الأماكن الجاذبة، أو توفير منصات مشتركة تربط العاملين بالمنظمات والمنشآت التجارية بهدف تفعيل العمل الجزئي لتعزيز الاقتصاد المحلي وتقليص مستوى البطالة، أو تحفيز العقول في المساهمة بالحلول والأفكار الإبداعية في شتى المجالات.

moqhim@