هل الديمقراطية دائما على حق؟
السبت - 27 أغسطس 2022
Sat - 27 Aug 2022
نشرت شبكة «الباروميتر العربي» البحثية في شهر يوليو الماضي دراسة بحثية أجرتها على 10 دول عربية بعنوان «الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» حققها الأستاذ في جامعة برنستون الأمريكية مايكل روبنز، وقد خلصت الدراسة إلى أن قلق المواطنين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتزايد إزاء المشاكل المحتملة التي ترتبط بالنظام السياسي الديمقراطي على مدار العقد الماضي، كما توصلت إلى أن السنوات الخمس الأخيرة كانت درجة إيمان المواطنين بأن النظم الديمقراطية لا تقدم حلولا مثلى قد زادت أيضا، خاصة في مجالات الأداء الاقتصادي، والاستقرار، والحسم في القرارات، ففي تونس على سبيل المثال زادت النسبة التي تؤيد أن «الأنظمة الديمقراطية تعاني من كثرة المشاكل وعدم القدرة على الحسم» من 19% في عام 2011 إلى 67% في عام 2021، أما في العراق فارتفعت من 29% في عام 2011 إلى 71% في عام 2022؛ لكن الأهم من ذلك هو أن الغالبية من مواطني دول الدراسة بمختلف فئاتهم العمرية والاجتماعية ومستويات تعليمهم ومدخولهم ما زالوا يميلون إلى تفضيل الديمقراطية على النظم السياسية الأخرى، وغالبا ما يعود هذا الميل إلى دافع الرغبة في وجود ممثلين عن الفرد نفسه داخل دوائر صنع القرار.
وفي الحقيقة ينجذب الأفراد في العالم العربي إلى النظام الديمقراطي نظرا لما تستمده الديمقراطية من قوة جاذبة في مفرداتها من قبيل الحرية والمساواة والحقوق والعدالة وغيرها، وإذا ما اعتبرنا أنها تعني ببساطة حكم الشعب لذاته بكل مكوناته؛ فإن هناك الكثير من التطبيقات التي تخدش الصورة المثالية المرسومة عن الديمقراطية في واقع ممارساتها الفعلية لدى الغربيين، فعلى سبيل المثال ترتبط الحقوق المدنية في المملكة المتحدة بالانتماء الديني، حيث يحتل المواطنون من غير التابعين إلى كنيسة إنجلترا «الكنيسة الأنجليكانية» مرتبة أدنى، ولا تزال بعض الوظائف قاصرة على الأنجليكانيين مثل (رئيس القضاة، بعض عمداء الكليات...) أما في ألمانيا فقد توحدت المسيحية مع مفهوم «الأمة الألمانية» حتى احتكرت الأحزاب المسيحية السلطة (الحزب المسيحي الديمقراطي، حزب الوسط الكاثوليكي، الحزب المسيحي الاجتماعي، الحزب المسيحي الاشتراكي)، أما في إسبانيا فيعلن الدستور صراحة بأن إسبانيا دولة كاثوليكية وأن حق الانتخاب محصور في الإسبان الكاثوليك.
هذه الأمثلة تعكس ما يمكن التعبير عنه بـ»طغيان الأغلبية» الذي يؤكد بأن الديمقراطية يمكن أن تقود إلى حكم للأقلية من محترفي العمل السياسي عن طريق الهيئات النيابية دون الاكتراث بما تحمله المجتمعات من تعددية وتفاوت، وهذا ما يقودنا إلى استنتاج أن الديمقراطية في ذاتها وسيلة سياسية وليست غاية تدفع إليها دول المنطقة بالأرواح والأنفس والثمرات.
وإذا ما قلنا بأن الديمقراطية ليست واقعية، أو أنها ترتقي فقط إلى مستوى التنظير المثالي باعتبارها مفهوما عالميا صالحا للتطبيق في كل الظروف، قد يبدو لكثير من الجماهير العربية، التي ترى أن الديمقراطية دائما على حق، أن هذا القول مناهض للحريات والحقوق والمساواة والعدالة، لكن الواقع العربي يظهر مدى اصطدام الديمقراطية بالوعي السياسي الجمعي؛ حيث أظهرت التجارب العربية المتعددة في تطبيق النظام السياسي الديمقراطي فشلا ذريعا تمخضت عن تلك التجارب مشكلات بنيوية ضخمة هبطت فيها بعض الدول إلى ما دون مستوى الدولة الفاشلة، فيما راوحت دول أخرى مكانها منذ منتصف القرن الماضي عاجزة عن تحقيق أي تنمية تكاد تذكر.
الديمقراطية ليست واقعية لكونها تصطدم مع بنية الوعي السياسي العربي وحسب، بل لأن من أبناء جلدتها ذواتهم من لفظها ورفضها ودحضها بداية من أفلاطون وحتى يومنا هذا، وظهرت بهم مفاهيم جديدة كدرت صفو هذه المثالية، مثل المال السياسي وجماعات المصالح وجماعات الضغط التي تهدف إلى التأثير على القرار السياسي، حتى قال جريج بالاست بأن «أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها»، نعم يستطيع المال شراءها بمناصبها وقراراتها السياسية، بل ويتعدى ذلك أحيانا إلى تحقيق الدعم الاقتصادي والعسكري لقوى خارجية ولو على حساب المصالح القومية للدولة الديمقراطية، فتظهر الدولة هنا على أنها ديمقراطية في مخيلة عامة الناس، لكنها في الحقيقة شكلا آخر للديكتاتورية تحركه رؤوس الأموال والقلة القليلة من محترفي العمل السياسي، وهذا لا يعني أيضا أن الديمقراطية دائما باطلة ومزيفة بل يعني أنها ليست الشكل الوحيد الصالح للتطبيق في كل بلد؛ لكونها ناجمة عن عملية متواصلة من التطور التاريخي في المجتمعات الغربية، بما تحمله تلك المجتمعات من خصوصية في بيئتها وبنيتها الفكرية والدينية، لذلك لن تكون الديمقراطية، إطلاقا، عصا سحرية تأتي بالخلاص إلى الشعوب العربية وتفتت مشاكلها.
9oba_91@
وفي الحقيقة ينجذب الأفراد في العالم العربي إلى النظام الديمقراطي نظرا لما تستمده الديمقراطية من قوة جاذبة في مفرداتها من قبيل الحرية والمساواة والحقوق والعدالة وغيرها، وإذا ما اعتبرنا أنها تعني ببساطة حكم الشعب لذاته بكل مكوناته؛ فإن هناك الكثير من التطبيقات التي تخدش الصورة المثالية المرسومة عن الديمقراطية في واقع ممارساتها الفعلية لدى الغربيين، فعلى سبيل المثال ترتبط الحقوق المدنية في المملكة المتحدة بالانتماء الديني، حيث يحتل المواطنون من غير التابعين إلى كنيسة إنجلترا «الكنيسة الأنجليكانية» مرتبة أدنى، ولا تزال بعض الوظائف قاصرة على الأنجليكانيين مثل (رئيس القضاة، بعض عمداء الكليات...) أما في ألمانيا فقد توحدت المسيحية مع مفهوم «الأمة الألمانية» حتى احتكرت الأحزاب المسيحية السلطة (الحزب المسيحي الديمقراطي، حزب الوسط الكاثوليكي، الحزب المسيحي الاجتماعي، الحزب المسيحي الاشتراكي)، أما في إسبانيا فيعلن الدستور صراحة بأن إسبانيا دولة كاثوليكية وأن حق الانتخاب محصور في الإسبان الكاثوليك.
هذه الأمثلة تعكس ما يمكن التعبير عنه بـ»طغيان الأغلبية» الذي يؤكد بأن الديمقراطية يمكن أن تقود إلى حكم للأقلية من محترفي العمل السياسي عن طريق الهيئات النيابية دون الاكتراث بما تحمله المجتمعات من تعددية وتفاوت، وهذا ما يقودنا إلى استنتاج أن الديمقراطية في ذاتها وسيلة سياسية وليست غاية تدفع إليها دول المنطقة بالأرواح والأنفس والثمرات.
وإذا ما قلنا بأن الديمقراطية ليست واقعية، أو أنها ترتقي فقط إلى مستوى التنظير المثالي باعتبارها مفهوما عالميا صالحا للتطبيق في كل الظروف، قد يبدو لكثير من الجماهير العربية، التي ترى أن الديمقراطية دائما على حق، أن هذا القول مناهض للحريات والحقوق والمساواة والعدالة، لكن الواقع العربي يظهر مدى اصطدام الديمقراطية بالوعي السياسي الجمعي؛ حيث أظهرت التجارب العربية المتعددة في تطبيق النظام السياسي الديمقراطي فشلا ذريعا تمخضت عن تلك التجارب مشكلات بنيوية ضخمة هبطت فيها بعض الدول إلى ما دون مستوى الدولة الفاشلة، فيما راوحت دول أخرى مكانها منذ منتصف القرن الماضي عاجزة عن تحقيق أي تنمية تكاد تذكر.
الديمقراطية ليست واقعية لكونها تصطدم مع بنية الوعي السياسي العربي وحسب، بل لأن من أبناء جلدتها ذواتهم من لفظها ورفضها ودحضها بداية من أفلاطون وحتى يومنا هذا، وظهرت بهم مفاهيم جديدة كدرت صفو هذه المثالية، مثل المال السياسي وجماعات المصالح وجماعات الضغط التي تهدف إلى التأثير على القرار السياسي، حتى قال جريج بالاست بأن «أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها»، نعم يستطيع المال شراءها بمناصبها وقراراتها السياسية، بل ويتعدى ذلك أحيانا إلى تحقيق الدعم الاقتصادي والعسكري لقوى خارجية ولو على حساب المصالح القومية للدولة الديمقراطية، فتظهر الدولة هنا على أنها ديمقراطية في مخيلة عامة الناس، لكنها في الحقيقة شكلا آخر للديكتاتورية تحركه رؤوس الأموال والقلة القليلة من محترفي العمل السياسي، وهذا لا يعني أيضا أن الديمقراطية دائما باطلة ومزيفة بل يعني أنها ليست الشكل الوحيد الصالح للتطبيق في كل بلد؛ لكونها ناجمة عن عملية متواصلة من التطور التاريخي في المجتمعات الغربية، بما تحمله تلك المجتمعات من خصوصية في بيئتها وبنيتها الفكرية والدينية، لذلك لن تكون الديمقراطية، إطلاقا، عصا سحرية تأتي بالخلاص إلى الشعوب العربية وتفتت مشاكلها.
9oba_91@