صهيب الصالح

كيف تستهدف الرأسمالية زيادة الإنتاج بينما تشرع المثلية؟

السبت - 20 أغسطس 2022

Sat - 20 Aug 2022

«الرأسمالية تراكم الثروة لأجل الثروة. تراكم يتطلب إنتاجا ضخما متصلا mass production. بدون تزايد السكان يتوقف الإنتاج. تزايد السكان مستحيل بدون علاقة المرأة والرجل. أي أن هذه العلاقة أساس للحضارة الرأسمالية كما كانت لكل الحضارات الإنسانية. ماذا يعني تشريع زواج المثليين في هذه الحالة؟» هذه المفارقة طرحها نصا قبل فترة وجيزة الأستاذ في علم الاجتماع السياسي د. خالد الدخيل في حسابه على موقع تويتر، وهي تبدو في ظاهرها أنها تحمل شيئا ما ونقيضه بما يستعصي على الفهم، ولكني أذهب إلى أن فهمها ممكن لكنه يتطلب تمحيصا دقيقا لهذه الظاهرة داخل إطار الرأسمالية نفسها وليس بمعزل عنها، وأحاول الإجابة عن هذه الإشكالية من خلال طرح حجة رئيسة هي أن الصيرورة الرأسمالية ذات حركة مفرطة تجعل طبائعها قابلة للانقلاب على نفسها متى ما كانت هناك حاجة لابتداع نمط استهلاكي جديد، وأرتكز في هذه الحجة على ثلاثة مرتكزات هي: خواء روح الحضارة الرأسمالية، والحركة المفرطة للمجتمع الرأسمالي، وأخيرا تبدل نمط الاقتصاد، مع التأكيد على أن هذه العناصر الثلاثة لا تعمل متفرقة بل تتفاعل مع بعضها باطراد، وأن مقالة واحدة أو حتى سلسلة مقالات ليست كافية لشرح الصورة كاملة أو للإجابة على هذا السؤال الجوهري.

منذ زمن يعيش العالم في كنف الحضارة الرأسمالية التي اتفق كافة المشتغلين في مبحثها من مؤرخين واقتصاديين وسياسيين واجتماعيين على أن غايتها النهائية هي تعظيم الثروة، تماما مثلما ذكر د. الدخيل، ويكمن المحفز للثروة هنا من مفهومية السيادة الاقتصادية على الذات الإنسانية والمجتمع والطبيعة، حيث جعلت الرأسمالية من الاقتصاد قطبا تنجذب إليه كافة الظواهر الكونية، بما فيها الإنسان والمجتمع والعلم والعقل والمناخ والموارد الطبيعية وغيرها من بقية الأشياء، وبالتالي ستكون النتيجة الواضحة هي إفراز الرأسمالية لطبائع من جنس هذا القطب، وليس قيما وأخلاقيات من مرجعيات أخرى غيره، أي أن الأساس الفلسفي للرأسمالية يحمل روحا خاوية حينما بني على غرض التقويض الداخلي للإنسان من خلال تجريده من قيمه وأخلاقياته، وجعل هدفه الأسمى وجوهره الوجودي يتمثل في ديمومة استهلاكه، وهذا التجريد لم يدع مجالا في أدبياته للعلاقة بين المرأة والرجل كقيمة أخلاقية أو حتى وجودية، وبالتالي أصبح من الممكن أن تنقلب الطبائع -وليس القيم- الرأسمالية على نفسها، وإذا ذهبنا إلى سجل التاريخ سنجد شواهد تؤكد بأن ما كان صائبا في يوم ما وفق المنظور الرأسمالي وكانت حينها تقاتل بكل قوتها لنشره وتحقيقه على أوسع النطاقات؛ قد يأتي يوم آخر وتدفع بنقيضه تماما، وهنا إشكالية فلسفية عميقة مقرها متجذر في روح الحضارة الخاوية، وبالتالي يمكن اعتبار ظاهرة المثلية ليست إلا نوعا جديدا من الاصطناع لزيادة استهلاك الفرد.

وفي العقود الأخيرة يمر المجتمع الرأسمالي، الذي يعاني فعليا من تراجع ديموغرافي، بمرحلة حركة اجتماعية مفرطة تقوده إلى التغيير والتبديل المستمر والسريع، شأنه بذلك شأن أي مجتمع أو حضارة إنسانية سالفة لكن مع وجود اختلاف في إيقاع التغيير، فالمجتمعات البشرية لا تتصف بالخمود الفطري الذي تتصف به المادة، وفي سبيل ذلك طرح الفيلسوف الألماني «هيجل» نمط الجدلية التاريخية، كما حاولت الرؤيا الماركسية أيضا تفسيرها بالبعد الاقتصادي، ولست هنا لأتحقق من أسباب حركة المجتمع الرأسمالي رغم أهميتها، فكما أن الرأسمالية أنتجت راهنا ظاهرة المثلية كانت قد أنتجت قبلها مثلا المطالبة والإقرار بحق الإجهاض، والمساكنة من دون إنجاب أو زواج شرعي/ رسمي، وهذه ظواهر لو تناولناها بانفصال ربما سنتوصل إلى أنها قد تكون عثرة أمام تزايد السكان وبالتالي قد تعرقل زيادة الإنتاج؛ لكني هنا أبني على المرتكز الأول لأستخلص أن القاعدة العامة التي تتحكم في حركة المجتمع الرأسمالي هي الاستهلاك.

المجتمع الرأسمالي لا يمتلك شخصية مستقلة ذات ثوابت إنسانية تنساق خلفها سلوكيات غالبية أفراده، بل هو مجتمع يتماهى مع أفراده إلى درجة أنه يضمحل بهم، فإذا افترضنا جدلا أن الأفراد المشكلين للمجتمع الرأسمالي تعرضوا للفناء وحل محلهم أفراد مهاجرون من شرق آسيا أو الشرق الأوسط؛ فإن الرأسمالية عينها ستختفي من أفراد المجتمع البديل لعدم امتلاكها مضمونا جوهريا ذا طابع إنساني، بمعنى آخر أنها تفتقر للصفات الداخلية والنزعات التي تسوقها إلى ضمان استمرارها في مجتمع إنساني، وهذا يعود للأثر التدريجي الذي أحدثته الصيرورة الرأسمالية من انشقاق لوحدة كيان المجتمع، وتحويل قوته الخلاقة، التي بنت المكائن والمصانع، إلى قوة تعسفية تُكره الأغلبية على محاكاة الأقلية.

أما من الناحية الاقتصادية؛ فعندما ننظر إلى اجتياح مراكز التسوق والترفيه -بدلا عن المصانع- في أعمال التشييد والانتشار وتحقيق الأرباح أيضا في المجتمع الرأسمالي، وصولا إلى تلك المنصات الموجودة في العالم الافتراضي أيضا، فسنتوصل إلى حقيقة واضحة هي أن الازدهار الاقتصادي يقوم اليوم على ما لدى الفرد من سيولة يستطيع من خلالها مد عجلة الاقتصاد بالوقود اللازم وليس بما لديه من مدخرات، ومن هذا المنطلق لا غرابة إن قرأنا لاحقا خبرا يفيد بإطلاق عملة مشفرة يكون اسمها مثلا «LGBT» لتسهم في زيادة الضخ في هذا الاقتصاد الاستهلاكي، وهذا المسار يوصل في مرحلته النهائية إلى «عصر الاستهلاك الجماعي الوفير» الذي بشر به والت روستو عام 1960 في نموذجه لمراحل النمو الاقتصادي الخطية.

والوصول إلى هذه المرحلة غير ممكن إلا عندما تتقدم المنفعة المادية على المنفعة المعنوية مثلما يتحقق راهنا في الحضارة الرأسمالية حسبما سبق ذكره، بما يعني أن ظاهرة المثلية قد غذت حركة الإنتاج ببيئة سريعة الفوائد والأرباح، وكونت قاعدة شعبية جديدة من المستهلكين لم تكن موجودة سلفا، ويمكن أن تعطي هذه القاعدة أنماطا جديدة للاستهلاك الوفير من خلال ما تحققه من أهداف تسويقية لتذاكر السينما وتنظيم الحفلات الموسيقية والمهرجانات والمحافل الرياضية وغيرها من الأنشطة الاجتماعية والترفيهية، وما تحققه أيضا من أرباح طائلة من المبيعات في قطاعات الطب التجميلي والعناية والملابس والأزياء والكثير من السلع الأخرى، بل إذا استمرت بهذا الفرط قد تفتح المجال أيضا أمام إنتاج جديد من الأمراض والعقاقير، وهي إذ تشجع على دعم هذه الفئة تقدم أيضا في الوقت نفسه حلولا تقنية لاستمرار التخصيب «طبيا» تماما مثلما حاولت سابقا تقديم عدد من الحلول التقنية لاستمرار الموارد الطبيعية، وتحث أيضا على الهجرة وتيسرها لسد الفراغ الذي خلفه التراجع الديموغرافي في مجتمعاتها، وهذا ما قد ينفي أن علاقة المرأة والرجل أساس في الحضارة الرأسمالية.

خلاصة القول هو أن تشريع زواج المثليين في المجتمعات الرأسمالية يفتح خطوطا أخرى للإنتاج وبالتالي يمكنه أن يكون فاعلا في تعظيم الثروة ووقودا يصب في محرك عجلة الاقتصاد الرأسمالي؛ لكنه يعطي في الوقت نفسه مؤشرا واضحا على أن حركة المجتمع الرأسمالي تمر في أطوار مظلمة، خاصة إذا ما تنبهنا إلى تزامنها مع الحديث عن تغير النظام الدولي، وقد يكون السؤال المناسب لاستكمال هذا الحديث هو هل تستطيع الرأسمالية، بعد وصولها إلى هذا الحد من الفجاجة، من إعادة إنتاج نفسها بما ينمي معدلات الاستهلاك أكثر؟ وهل سنرى صعودا لحضارة سلافية - أرثوذكسية وأخرى شرقية - بوذية؟ ربما.

9oba_91@باحث سياسي واجتماعي