صهيب الصالح

ثالوث المبدئيات في القضية الفلسطينية

السبت - 13 أغسطس 2022

Sat - 13 Aug 2022

عقب أحداث غزة الأخيرة بين حركة الجهاد الإسلامي وجيش الاحتلال الإسرائيلي، راج تصريح للأمين العام للحركة زياد نخاله يبرر فيه ارتباط الفصائل الفلسطينية بإيران فيقول «فليتفضل العرب لدعم المقاومة الفلسطينية بدل إيران؛ لنزيح إيران ونرحب بهم» متجاهلا أنه ومع كل عدوان إسرائيلي على فلسطين منذ 74 عاما، كانت الحكومات والشعوب العربية تقول وتكتب آلاف العبارات المنددة بجرائم الاحتلال الإسرائيلي والداعمة للحق الفلسطيني، وتطلق كذلك العديد من موجات الدعم والتعاطف مع القضية على هيئة ابتهالات وشعارات جماعية وأموال ومساعدات ترفعها الجمعيات الرسمية والأهلية، بل وشكلت في بدايات القضية جبهة عسكرية عربية ظلت موحدة ومتماسكة تماما مع واحدية روح المشروع الفلسطيني، رغم فقدانها أرواحا كثيرة ومساحات جغرافية عدة بكل ما كانت تحمله من مزايا وثروات طبيعية واستراتيجية.

وربما كان إصرار الجبهة العربية آنذاك على التماسك، وإيمانها بمبدئية تحقيق السلام باعتباره الأصل الأصيل في القضية الفلسطينية، ربما أفقدها الفطنة المبكرة لنقطة التحول والانشطار في الداخل الفلسطيني ووأدها فورا بأدوات فاعلة؛ فصارت تتلقى من الفصائل الفلسطينية تدريجيا اتهامات بخذلان القضية وخيانتها، وافتراءات باطلة بالتصهين والتطبيع في الوقت الذي كانت فيه الفصائل الفلسطينية تشيد بدور إيران بحماسة مفعمة؛ على الرغم من أنها الدولة التي حافظت على علاقات وثيقة مع إسرائيل منذ عام 1948م ضمن ما يعرف بـ»عقيدة المحيط» التي وضع أسسها دافيد بن غوريون، وكانت -مثلا- الصادرات الإسرائيلية إلى إيران في عام 1967م قد بلغت ما يعادل 10.54 ملايين دولار بما يعادل 61% من مجموع صادرات إسرائيل إلى المنطقة، بل وكانت إيران هي عنصر الإنقاذ في خطة حظر النفط العربية عن إسرائيل، وظلت كذلك حتى قيام الثورة الخمينية عام 1979م لتبدأ بعدها في بناء ودعم مبدئها العقدي-العسكري من القضية الفلسطينية من خلال التركيز على اختراق الوسط الفلسطيني بمقاربة المقاومة، وما نراه اليوم على الأرض في غزة لا يقل عن كونه انسياقا أعمى خلف المبدئية الإيرانية هذه.

أما إسرائيل فتكمن مبدئيتها في عدم اعترافها، أو حتى عدم موافقتها أيضا على فكرة قيام دولة فلسطينية، وتحمي هذه المبدئية بإحكام من خلال عمل اللجان الدولية الفوقية وقرارات مجلس الأمن الدولي وغيره من الفواعل الأخرى، وهي تعمل على هذا الأساس منذ وعد بلفور عام 1917م وحتى إعلانها الاستقلال عام 1948م مرورا بعد ذلك بالمحطات العديدة من المفاوضات والاتفاقات مثل اتفاق أوسلو الموقع عام 1993م، فإسرائيل تعترف راهنا فقط بمنظمة التحرير الفلسطينية التي لقبت نفسها بـ»السلطة» تمهيدا لتجسيدها لاحقا دور الدولة، وتتعامل معها إسرائيل ومع بقية الفصائل الفلسطينية على مبدأ حكم الأمر الواقع، وتحظى هذه السلطة كذلك بالاعتراف الدولي كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في المحافل الدولية.

وإذا ما أطلنا النظر فيما نتج عن ثالوث المبدئيات هذا لن نجد سوى حل واحد تعترف الشرعية الدولية بصلاحية تطبيقه، وهو المبادرة التي طرحتها السعودية في قمة بيروت عام 2002 وأقرتها الجامعة العربية بالإجماع، وهي تركز في بعدها الاستراتيجي على التمسك بمبدأ السلام والأمن الشامل لكل الأطراف، وبالتالي انتهاء النزاع العربي-الإسرائيلي وتكوين علاقات طبيعية بين الطرفين، وغير خفي أن السعودية بذلت لتلك الغاية كل السبل الممكنة وغير الممكنة ابتداء من داخل الغرف المغلقة والمفتوحة في البيت الأبيض وليس انتهاء بأخذ الأيمان المغلظة على الأطراف الفلسطينية في بيت الله العتيق بجانب الحجر الأسود، ورغم ذلك رفضت روح المشروع الفلسطيني أن تتطبع بصبغة واحدة سواء أكانت بيضاء أم حتى سوداء، وإنما ظلت هكذا عائمة بين هذا وذاك، وبسبب ذلك تراجعت فاعلية الدور العربي في القضية الفلسطينية مع الاحتفاظ بذات المبدئية القائمة -حتى الآن- على أساس السلام.

وبناء على ما سبق يمكن استنتاج أن إحداث الشطر في الداخل الفلسطيني وتعميقه عن طريق إمداده بالصواريخ الإيرانية وتعظيم الحماسة بالشعارات والخطابة ما هو إلا استنزاف لفرص العرب وحضورهم الإقليمي؛ بغرض الحد من صعودهم في مواجهة المشروعين الإسرائيلي والإيراني على حد سواء، ليس من منظور المؤامرة أو عمالة المشروعين لبعضهما بعضا، ولكن من منظور واقعي يحاول فهم الغائية من هذا الانشطار المفتعل، ولكون المبدأ من الأشياء التي لا تنضوي تحت قطاع التجزئة أو الليونة وإلا فإن جوهرها سيتلاشى؛ فإن ارتباط الفصائل الفلسطينية بإيران يعني -بالضرورة- ارتباطهم أيضا بالسلوك الإيراني في نشر ميليشياتها في الدول العربية، ويعني أيضا اعترافهم بمشروعية تطويرها أسلحة نووية وصواريخ باليستية، ويعني أن السلام والأمن الشامل غير مطروح في أذهان الغزاويين، في مقابل استمرار المقاومة نيابة عن الولي الفقيه.

إن الحق الفلسطيني في العودة وتقرير المصير هو حق مشروع وغير قابل للتصرف أو التنازل، ولكن ما تحدثنا عنه يدلل على أن الفصائل الفلسطينية هي إما أنها بمعزل عن الوعي بما يجري كليا، بما في ذلك الحق الفلسطيني، أو أنها تعيش بلا مبدئية ثابتة يمكن أن تكون منارة لمشروعها، مما دفعها إلى التنازل تدريجيا أمام ما تقتاته من إغراءات المصالح الآنية، وما يتوجب عليها الآن هو الاختيار الحصيف والمفصلي بين ثالوث المبدئيات التي لا يمكن أن تجتمع بأي حال من الأحوال، فإما أن تكون مفردة ولائية ضمن مفهوم المقاومة بحسب المعجم الإيراني، أو أن تسعى إلى السلام الشامل من خلال الانخراط مع السلطة المعترف بها دوليا في روح واحدة بما يحفظ سلامة مشروعها لدى الشعوب العربية؛ وإلا فإن مصيرها مرهون بحكم الأمر الواقع الإسرائيلي.

9oba_91@

باحث سياسي واجتماعي