عبدالحليم البراك

الكبار لا يرحلون!

الاثنين - 01 أغسطس 2022

Mon - 01 Aug 2022

في الإدارة يغادر الكبار أماكنهم بهدوء، بلا ضجيج يذكر، لأنهم يعرفون أن الضجيج ليس سوى غبار معركة، ليس له علاقة بالمعركة ذاتها، ثم إن لهم رؤية مختلفة عن الصغار، وكأنما قالت ألسنتهم: إني أغادر بهدوء لأني أثق بقدراتي ونجاحي في مكان آخر، بل وكأن لسان حاله يقول: لست أنا من يتعلق باللحظة والمكان، فإن اللحظات لي والأمكنة كلها مكاني، هذا الحديث نقوله عندما نرى بعض القيادات المتمكنة تغادر أماكنها ويظن البعض أنها انتهت، ولا يدرون أن الكفاءات تصنع نفسها بنفسها من جديد في مكان آخر، وأنه لا يزال هناك من يثق في قدراتهم الإدارية والقيادية فيستقطبهم، فحجم الطلب عليهم في ازدياد، لأن خبرتهم في نمو ومعرفتهم تتصاعد، وفهمهم للأمور أكثر وأعمق.

وكلما مر بي خبر أن أحد الكبار ترجل من منصبه، قلت في نفسي: استراحة محارب وعودة قريبة، أو قلت: لا يمكن لمن هو مثله أن يدعه من يعرف قدراته وشأنه بل عودته قريبة من خلال نافذة قيادية أخرى، أو من خلال إدارة أخرى، ويصدق حدسي ولو تأخر قليلا، إن هؤلاء لا يتركون أثرا على الأشخاص والإدارة فحسب، بل يتركون أثرا على السياسة الإدارية في المكان الذي تركوه، ويأبون أن يذهبوا بعيدا إلا بأثر كبير في المكان الجديد الذي قد يلتحقون فيه، فلذلك لست قلقا مطلقا.

إن كانت الإدارة هي فن إصلاح الأخطاء، أو أن الأصل فيها أن خطأ قد وقع والقائد مهمته إصلاح الأخطاء، أو الإدارة هي القدرة على الاتصال وحل المشكلات، فإن القادة أيضا هم الذي يصلحون ما يفسده الآخرون ساعة أو يطورون آليات العمل فيسبقون الزمن في سبيل تطور المنشأة.

ودعك من كلامي هذا، وراجع تلك القيادات التي آمنت بها بعد أن ترجلت من مكان، وتولت مكانا آخر، إلا وأن ترى نجاحا تحقق على يديها أو على الأقل أن تميزا حل في المكان الجديد، لأن أبرز ما يمتلكه كبار القادة رؤية فريدة: ثمة نجاح في المنشأة الجديدة عليه المحافظة عليه، وثمة جانب متعثر فيها يجب عليه أن ينمي روح العمل فيه، حتى تتكامل المنشآت وتتميز، وهذا بخلاف الإداري الصغير الذي قد يفسد الجانب الناجح في المنشأة الجديدة التي انتقل إليها، فضلا عن ممارسات فاشلة أخرى في الجانب المتعثر، فيتعثر أكثر، هذا إن لم يحارب النجاح باسم التطوير أو يحجم من العاملين معه لأن نظره أقل من نظرتهم.

ولأن من تأمل الإدارة وجد أنها لب العمل وعليها مدار النجاح، فلا الملاءة المالية هي النجاح وإن كانت عاملا مساعدا، ولا حتى البيئة الناجحة هي النجاح وإن كانت حاضنة، ولا حتى الأنظمة وثقافة العمل هي النجاح وإن كانت تقدم لك روح العمل في طبق من ذهب، إلا أن الإدارة والإداري الفذ يستطيع أن يتجاوز أزمة عدم الملاءة المالية أو أن يخلق بيئة ناجحة في بيئة صعبة، أو أن يخلق ثقافة عمل جديدة وآلية تغيير يستفيد منها أجيال بعد رحيله والأمثلة لا تعد ولا تحصى، فتكون القيادة والقائد هو النجاح الأصلي لأن العنصر البشري هو العنصر المفكر المبدع المتجدد!

وأحب أن أقول: من رحل من دوائرنا ومنشآتنا من كفاءات لا يحزننا أبدا، لأننا نثق أننا سنراه ناجحا في دائرة أخرى وفي تجربة أخرى، ودعواتنا له بنجاح لا يتوقف!

Halemalbaarrak@