مرفت محمد

المدير النرجسي

الأحد - 31 يوليو 2022

Sun - 31 Jul 2022

هل استدعاك مديرك في العمل يوما ما ليكلفك بإحدى المهام وأوهمك بأن هذه المهمة قد تم الإعداد والتخطيط الجيد لها، وأنه هو بنفسه من أشرف على ذلك، ولكن ما إن بدأ التنفيذ ووقعت العديد من الأخطاء الناتجة عن قصور في مرحلة الإعداد والتخطيط، إلا وسارع بنفي أي صلة له بما ارتكب من أخطاء وحملك أنت وغيرك من مرؤوسيه مسؤولية اقتراف تلك الأخطاء، أما هو فمحال أن يخطئ أو يقصر أو تقترف يداه إثما، فالنجاح دوما حليفه، والقمة هي مبتغاه ومرتعه، لا يهتم إلا بذاته، ولا يتوانى عن استغلال الآخرين لتحقيق مآربه وأهدافه وطموحاته، مثل هذا المدير يعرف في علم النفس بـ «المدير النرجسي».

وقبل أن أسرد لك ما عدده علماء النفس من صفاته، دعني أسرد لك أولا قصة نشأة هذا المصطلح «النرجسية» Narcissism، والذي تعود جذوره الى الأسطورة اليونانية القديمة، حيث يروى أنه كان هناك شاب شديد الوسامة يسمى نارسيوس Narcissus والذي عرف عنه الغرور الشديد بذاته، فكان يخبر الآخرين بأنه وقع بالحب حين رأى انعكاس صورته في الماء، ولذا فقد اشتق مصطلح النرجسية من اسمه ليصف أولئك المولعين بحب ذواتهم والمهووسين بالحب المفرط لأنفسهم.

فالنرجسيون يتميزون بمجموعة من الصفات، منها على سبيل المثال: الحب المفرط للذات والشعور بالغرور والاستعلاء على الآخرين والنظرة الدونية لهم، ينهمكون في تحقيق النجاح، ويرغبون دوما في الحصول على إعجاب وتقدير الآخرين، لا يتقبلون نقد الآخرين لهم، ولا يصدقون إلا الصورة أو الهالة التي رسموهم لأنفسهم في مخيلتهم، أما انتقادات الآخرين فما هي من وجهة نظرهم إلا أحقاد من جانبهم على نجاحاتهم المتلاحقة وتميزهم. مثل هؤلاء الأشخاص يجدون في المناصب القيادية مبتغاهم وضالتهم المنشودة، ولا يرضون بغيرها بديلا، وأنهم الأحق بتقلدها، وما خلقوا إلا ليشغلوها، يسيروا إليها، كما يسير النمل إلى المتنزهات.

لقد أجرى مجموعة من الباحثين اختبار الشخصية النرجسية على عدد من الطلاب بإحدى الجامعات الغربية، ثم عادوا إلى هؤلاء المبحوثين بعد حقبة من الزمن، فوجدوا أن أغلب النرجسيين منهم قد شغلوا مناصب قيادية. وجدير بالذكر، أنه ما إن يصبح النرجسي مديرا، إلا ونجده يتعامل مع مرؤوسيه باستعلاء ويحاول استغلالهم قدر الإمكان لتحقيق طموحاته التي لا حصر لها، لا يكتفي بذلك فقط، بل يسعى بكل ما أوتى من قوة إلى الهيمنة والتسلط على كل جوانب المؤسسة التي يعمل فيها، لا يتعاطف أبدا مع مرؤوسيه في أزماتهم أو كبواتهم، بل يتصيد لهم الأخطاء ليحاسبهم عليها، ينسب إنجازاتهم ونجاحاتهم لنفسه، ويتبرأ من أخطائه بعزوها إليهم، وإذا ما جرؤ أحد مرؤوسيه وتحلى بالشجاعة وأقدم على انتقاده والتبرؤ مما ادعاه عليه من أخطاء، إلا وأصابه ذلك بالغضب الشديد وجنون العظمة ووجه إليه ردات فعل عنيفة أوعدوانية.

وفي الواقع، فإن المدير النرجسي عادة ما يكون مصدرا للإزعاج وسببا في شعور مرؤوسيه بالضيق والمعاناة والألم النفسي، مثله لا يمكن أن يكون داعما وسبيلا لنجاح المؤسسات وتقدمها وازدهارها، بقدر ما يكون سببا في ترديها وفشلها ودمارها.

لذا نوصي جميع مؤسسات الأعمال باستقصاء مرؤوسيها للتعرف على نحو ما إذا كان مدراءهم من النرجسيين أم لا، وإذا ما استشعرت نرجسيتهم فعليها التخلص منهم فورا، بل والعمل على أن تكون إحدى معايير الاختيار لشغل المناصب الإدارية هو التواضع، والاستعانة بالمتخصصين في علم النفس للكشف عن هؤلاء النرجسيين مبكرا للحيلولة دون بلوغهم تلك المناصب، فمثلهم لا يفكر إلا في نفسه، وإذا ما تعارضت مصالح العمل مع مصلحته الشخصية فحتما سيقدم مصلحته الشخصية على ما عداها من مصالح مؤسسته، لا يهتم إلا بحاشيته من الأفاقين الذين اعتادوا على تمجيده ليل نهار، لا ينصت إلا لهم، فالحقيقة فقط هي ما تتغنى به ألسنتهم، أما من لا ينتمى لهذه الحاشية، فهو حاقد عليه، لا يلقي بالا لثرثرته، وحديثه بالنسبة له عديم الجدوى.

أما بالنسبة للمرؤوس الذي خالفه الحظ بالعمل تحت إشراف مدير نرجسي فإني أوصيه بالابتعاد عن ذكر عيوب هذا المدير تجنبا لغضبه، وأن يتحلى بالهدوء والصبر أثناء التعامل معه وأن يتجاهل غضبه ومحاولات استفزازه ويحاول تحمله قدر الإمكان، وأن يذكر دوما أن المدير النرجسي لا يتعاطف مع مرؤوسيه ولا يتسامح مع أخطائهم، لذا ينبغي عليه الالتزام بالكفاءة والانضباط في عمله وأن يتجنب الأخطاء قدر الإمكان درءا للعقاب، لا ينتظر من مديره تقديرا أو ثناءا على نجاحاته، فالنرجسيين لا يمكنهم الاعتراف بنجاحات الآخرين أو تقديرها أو الإثابة عليها، وأن يتجنب صداقة هذا المدير أو تكوين علاقات اجتماعية معه، فالنرجسي مريض بحبه لذاته، لذا فإنه يعجز عن إقامة علاقات اجتماعية سوية مع الآخرين.