مرزوق بن تنباك

الشيخ العبودي لن يدلي بدلوه

الثلاثاء - 19 يوليو 2022

Tue - 19 Jul 2022

كتبت بهذه الصحيفة المباركة منذ صدورها وكنت ملتزما في بعث مقالي الأسبوعي قبل نشره بخمسة أيام وغالبا يوم السبت ولا أذكر أنني تأخرت عن ذلك، وإذا كنت على جناح سفر أبعثه يوم الأربعاء بعد صدور سابقه بيوم أو يومين، وهو ما حدث في الأسبوع الماضي حيث كنت على نية سفر فبعثت المقال مبكرا.

وكان الحديث عن الجامعة الإسلامية والقراءات القرآنية وموقف الشيخ ابن باز، رحمه الله، واهتمامه بتدريسها عندما علم تعدد القراءات واختلافها وأمر بتأسيس قسم خاص للقراءات وتجويدها في الجامعة الإسلامية، وأردت توثيق ما رويت فاستشهدت بالشيخ العبودي حيث أعلم أنه حي يرزق، ومن يكون أعلم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من معالي الشيخ العبودي الذي واكب الجامعة منذ تأسيسها وكان أحد المؤسسين لها وأمينها العام ومساعدا لرئيسها، ويعلم كل ما يدور في أروقتها، وطلبت أن يدلي بدلوه فيما ذكرت، وذلك قبل وفاته بيوم أو يومين، وحين صدر المقال كان الشيخ قد لحق بربه، وقد استشكل القراء ذكره وطلب الشهادة منه وهو قد غادر الدنيا وما فيها، وأقواها تأثيرا في نفسي تغريدة بعثها الأخ الدكتور عبدالله الرثيع يقول فيها «الشيخ العبودي لن يدلي بدلوه في الموضوع حيث توفي صبيحة الجمعة الماضية..» لقد هزتني وجدانيا كلمة الدكتور الرثيع فذرفت الدموع حين أحضر تعليقه ذلك المشهد الرهيب الذي يوعد به الناس حين يدلي كل منهم بدلوه أمام رب غفور رحيم.

الشيخ العبودي، رحمه الله، أعطاه الله بسطة في العلم وبسطة في العمر جاوز مئة عام وهو ممتع بقواه العقلية والحسية وليست أعواما تعد للعمر ولكنها أعوام تعد للعطاء الدائم والمدد المعرفي الشامل الذي لا تحده التخصصات ولا ينقصه التفصيل والإدراك، وهبه الله من ملكات الحفظ والتنظيم وحسن إدارة الوقت وتسخير ذلك واستغلاله للعلم النافع ما جعله موسوعة تراثية متحركة في الآفاق، كتب في الجغرافيا ووصف البلدان والأرض المجلدات الكثيرة، وكتب في علم السكان والإنسان ما لم يكتب مثله في تاريخنا القريب وفصل بعلم بكر لم يسبق إليه، وكتب بالأدب الفصيح والعامي ما سوف يصير موضوعا للدراسات المستقبلية، وكتب في أنساب الأسر والقبائل المعاصرة مثلما كتب في علم السكان والجغرافيا، وكتب في التاريخ مثلما كتب في غيره من العلوم، وكأنه في كل موضوع كتبه قد وقف حياته عليه وتخصص فيه دون غيره.

ويقول طلابه ومريدوه إن لديه أكثر من أربعمئة كتاب بين منشور ومخطوط، وهو عدد لو طلب من أساتذة الجامعات اليوم قراءة ما كتب الشيخ فقط قراءة لما استطاعوا ذلك وصاحبكم منهم، هذا هو معنى المنح الربانية التي يهبها الله بعض عباده حيث يبارك الأعمار والأعمال لمن يشاء من خلقه، وقد بارك الله أعمال الشيخ وعمره وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده والله ذو الفضل العظيم.

أما ما لم يشاركه فيه أحد من جيله ولا حتى من كان قبله فهي تلك الموسوعة الهائلة التي كتبها في رحلاته التي زار فيها العالم كله، كان يذهب مكلفا بعمل دعوي ورسالي ولكنه لغلبة الاهتمام المعرفي على توجهه لا ينزل ببلد من البلاد التي يكلف بزيارتها إلا يدون ملاحظات ذكية وانطباعاته الشخصية، فيصف السكان ويفصل في وصفهم وسنحة وجوههم وأعراقهم وألوانهم ويصف اللباس ويفصل فيه ويصف الأطعمة وأنواعها ومذاقها وإعدادها، ويصف الحرف التي يمارسها أهل تلك البلاد وكأنه مقيم فيها، ويصف لغتهم ويدون اسم اللغة وبعض كلماتها، ولا ينسى أن يخبر القراء عن غرائب ما رأى وما سمع، ولا يغفل الاقتصاد والحديث عن الزراعة وما تنتج البلد من الأنواع التي لا توجد إلا فيها، ولا يهمل الحديث عن موارد البلد الذي يزوره وأوضاعه السياسية والاجتماعية السائدة، ذهب الشيخ وترك إرثا متنوعا من العلوم في شتى الموضوعات، فهل يفي طلابه ومحبوه بنشر إرثه للناس؟

رحم الله الشيخ محمد بن ناصر العبودي وجزاه عن العلم وأهله خير الجزاء.

Mtenback@