زيد الفضيل

أذربيجان بعيون عربية

السبت - 16 يوليو 2022

Sat - 16 Jul 2022

ما أحكم المتنبي الذي شغل الناس بقصيده وصار كثير من شعره مثلا تمشي به الأفواه وتتداوله الألسن يوما بعد يوم، ومن ذلك قوله المشهور:

«بذا قضت الأيام ما بين أهلها

مصائب قوم عند قوم فوائد
».

ذلك أننا - وأقصد الخليجيين وباقي العرب جملة- ما عرفنا أذربيجان وتجولنا في رحابها إلا بعد توتر العلاقات البينية مع تركيا، التي وبالرغم من حالة الإقبال الخليجي والعربي عليها إلا أن ذلك لم يترك أثرا على صعيد الواقع الحياتي، إذ لا يحبذ الأتراك جملة التعامل باللغة العربية، ويتضح من عديد منهم حجم الاستعلاء ضد العرب على الرغم من الفائدة الاقتصادية الواسعة منهم.

في أذربيجان يستمتع السائح العربي بجمال الطبيعة، ورونق المدينة، إذ ما أجمل عاصمتها مدينة باكو التي تجمع في عمارتها بين النسق الكلاسيكي والعمارة المعاصرة، وتتلمس في طرقها ومرافقها العامة كثيرا من شواهد الأنسنة، فما أجمل أن تمشي في تلك الحدائق الجميلة الوارفة الظلال، والممرات الترفيهية الخلابة المزينة ببحيرات الماء المتنوعة، علاوة على الشوارع التجارية التي تجمع بين رونق الاسترخاء وحرارة الاقتصاد، والمهم أن كل ذلك ينبض بحالة واضحة من الأنسنة التي اهتم بها المسؤول حال تخطيطه الحضري للمدينة ومرافقها.

فالمارة يمشون على أرصفة مجهزة بكامل احتياجاتهم بما في ذلك ممرات عربات الأطفال، كما لا يستشعرون ضيقا أو صعوبة في تنقلهم من جانب لآخر عبر أنفاق كثيرة تم إنشاؤها بإتقان، ومزودة بكاميرات عامة للمراقبة، وبطريق خاص للعربات، بل وفي بعضها رافعة كهربائية لكراسي ذوي الهمم، علاوة على بعض المحلات الصغيرة.

على أن أكثر ما لفت نظري هو حجم النظافة الهائل في مدينة باكو ومدينة قابالا الجبلية وما بينهما، إذ وخلال تجوالي ماشيا وراكبا لم أر ورقة مرمية هنا أو منديلا هناك، ناهيك عن افتقادي لأكوام الزبالة التي عادة ما تمتلئ بها الشوارع، والأمر ليس محصورا على الأحياء الجديدة وحسب، بل هو كذلك في بعض الأحياء القديمة التي مررت بها.حقا كم كان الأمر ملفتا بالنسبة لي، لأدرك بأن تلك الحالة من النظافة المطلقة كان منشؤها أولا وأخيرا سلوك الناس، إذ رأيت في غير مرة مراهقين يتعنون المسير خطوات لرمي مخلفاتهم في الحاوية المخصصة لذلك، وشاهدت سائقا لمركبة خاصة يقف بسيارته ليرمي شيئا في الحاوية أيضا. إذن هو سلوك نشأت عليه المدينة وترسخ في وجدان ساكنيها، وكم أغبطهم على ذلك وأرجو أن نقتدي بهم.

والمهم أن تستوعب أمانات وبلديات مدننا الأمر، وتهيئ أحياءنا وشوارعنا بكل ما يجب، فلسنا أقل من أذربيجان وعيا وإدراكا ومقدرة اقتصادية.

أشير إلى بساطة وأخلاق الإنسان الأذري مقارنة بصلف التركي، على الرغم من انتمائهم جميعا لعرق واحد وهو العرق التركي، لكن كما يتفاضل العرب فإن الترك يتفاضلون أيضا، وأتصور أن حجم اللطف القائم في أذربيجان راجع إلى حالة الامتزاج الثقافي بينهم على الصعيد المذهبي والثقافي، فهم خليط من شيعة وسنة علاوة على أقلية مسيحية ويهود، وهم أيضا امتزاج بين ثقافة تركية غالبة، وأخرى إيرانية واضحة ملامحها، وثالثة روسية بحكم انتمائهم للاتحاد السوفيتي سابقا.

على أن كل ذلك ليس مطروحا على الساحة، ولا تشعر به في حياة الناس أبدا وسلوكهم اليومي، فالكل يمشي لدربه دون تدخل في شؤون الآخرين، وتلك ميزة انعكست إيجابا على طبيعة سلمهم الأهلي وأمنهم الداخلي الكبير، فلا يشعر السائح بأي خوف أو احتيال من أحد طوال بقائه بينهم.

أختم بتوجيه رسالة مباشرة لوزارة السياحة هنا وهناك، فأما نحن فألفت نظر المسؤول الأعلى بأن السياحة لا تقتصر مهمتها على تجهيز البلد لاستقطاب الزائرين وحسب، بل يجب أن تتابع أحوال مواطنيها السائحين في بلدان أخرى، فهم قوة ناعمة يجب أن يستفاد من وجودهم، وكم أرجو أن تتناول مباحثات وزراء السياحة لدينا مع عديد من الدول التي يتواجد فيها مواطنون عرب، حث تلك الدول على الاهتمام باللغة العربية كإحدى اللغات الرسمية للسياحة فيها، وفي المقابل فأرجو من وزارة السياحة في أذربيجان أن تهتم بتعزيز اللغة العربية في مرافقها خاصة مع وضوح اهتمام الناس بألفاظها وفق ما ظهر لي، وأشير إلى أن ذلك سيزيد من ارتياح المواطن العربي والخليجي بخاصة، وسيحفزه أكثر ليجعل من أذربيجان مسكنا آخر له، بل ويستثمر فيها، ولا سيما أن بها كل مقومات السياحة الدافعة للاسترخاء والراحة والمتعة العائلية.

وكل عام والجميع بخير.

zash113@