عبدالحليم البراك

لماذا يغادرون المشهد؟!

الاثنين - 04 يوليو 2022

Mon - 04 Jul 2022

غادر الكبار المشهد الذي اعتادوا الرتع فيه، كانوا يجيدون علومه جيداً والحديث عنه والغوص في بحاره؛ مثاقفة ومحادثة وجدلاً وإثارة، بل ويتتبعون فيه أطراف الموضة الثقافية أو الرياضية أو الاجتماعية أو الفكرية، أو غيرها بحسب المشهد الذي يحبونه، غادروه لأن ثمة رسائل متتالية وصلت بأن هذا المشهد (الثقافي أو الاجتماعي أو الفكري أو حتى الرياضي وغيرها من المشاهد) ليس لهم بل لجيل آخر مختلف.

لم يغادروا المشهد لأنهم كبروا في السن، بل في شبابهم كان المشهد يستوعب كبار السن وصغاره، ويستوعب القديم والجديد، المحافظ والحداثي، القابع في المدينة والدولة والعائد حديثاً من البعثة المتعلم في الخارج، فقد كانت منظومة محترمة فيها كل أطياف الأعمار، وكل أطياف الاختلافات، أما المشهد الآن، فهو لصغار جداً لا يحترمون المادة العلمية التي يتداولونها في مشهدهم، بل يحترمون من يدفع أكثر، ويحترمون آلية الوصول أكثر (بغض النظر عن أخلاقيات الوصول نفسها) ويحترمون الشهرة بأي شكل كانت سلبية أو إيجابية، ولو تنازل أحدهم عن لباسه، ولو ظهر عرياناً أو شبه عريان، المهم أن يكون على رأس المشهد.

كان المشهد هو صحيفة رصينة خلف رئيس تحرير انتقائي جداً، ومدير تحرير صارم، ومادة علمية تستحق القراءة، أو كان المشهد كتابا عميقا ومادة علمية مثيرة للجدل، ودار نشر تهتم بالجودة أولاً، وقارئا يهتم بقيمة ما يقرؤه ويضيع وقته، فأنتج شيوخاً تكتب بعمق، وشبابا ينازع الشيوخ الجدل المحترم، أو ديوانية يجتمع فيها أهل الاختصاص (بأي لون ثقافي أو علمي) خلف صاحب صالح للديوانية ينتقي ضيوفه ويرتب حديثهم ويخرجون مثارين بالعلم والحديث، سعداء بالحوار ولا يخلو حوارهم عن مناكفات الكبار، أما الآن فلا صحيفة تسيطر على المشهد أصلاً، ولا كتاب يقرأ، ولا ديوانية يشار إليها بالبنان، إلا الشهرة وكأننا في بحر صحافة صفراء، شعارها الإثارة أولاً أو المال أولاً أو الشهرة أولاً.

لا يمكننا شتم التكنولوجيا أو وسائل التواصل الاجتماعي، فلم تهز هذه الوسائل تركيبة المشهد الثقافي في الولايات المتحدة أو ألمانيا أو بريطانيا، وربما أحدثت نوعاً من التنوع لكن لم تهز عرشه، بل مشهد مستقر ولا يمرون بمرحلة اللاتوازن، لكن في الوطن العربي، سحب المشهد من المثقف والمصلح الاجتماعي والرياضي الرصين وذهبت كل أفكارهم حبيسة الحسرة والاعتزال، وبقي المشهد لفتاة محتواها جسد، وشاب محتواه قلة أدب، فهل يحق لنا شتم التكنولوجيا التي قلبت الموازين؟

إنهم يغادرون المشهد لأنهم يحترمون أنفسهم قليلاً، ويبقون للعمق القليل في داخلهم قليلا من الاحترام والتقدير، وإن كان معظمهم يرحب بالتغيير ومواكبة روح الشباب؛ إلا أنهم كانوا يأملون باحترام الخبرات المتراكمة لهم وللأجيال السابقة لهم، وكانوا يأملون أن يتم احترام الفن الأصيل واحترام الثقافة الرصينة والرياضي المحترم ويأملون بأكثر من هذا، إلا أن التغيير لم يغير أوراق الشجر، ولم يهز الأغصان فحسب، بل اقتلع - على ما يبدو - بعض جذوع الشجرة وربما لم يبق لبذورها أرضاً تنبت فيه!

هذا عرض موجز، عن مغادرة الكبار للمشهد، ليس لأنه ليس من سنة الحياة بقاء الإنسان في المشهد حتى موته، بل لأن تحولات المشهد متسارعة وغير منضبطة ويمكن القول بأنها في مرحلة اللاتوازن في الوطن العربي، ففي وقت مضى كانت المساجالات الفكرية، وقضايا المجتمع، والحداثة والاصالة هي «ترند يومي»، صار الترند هو «......»، إن رواد المشهد الثقافي قد لا يستطيعون ملاحقة ما يرونه مما لا يليق بهم أو لا يليق بالمشهد الذي ينتمون إليه فيفضلون المغادرة، لكنني أقول لهم وبكل صدق وإخلاص: لا يزال ثمة مشهد خاص بكم لا تغادروه، ابقوا فيه، تجمعوا حول ضوئه، ولا تهجروه، لملموا أصدقاءكم حوله ومن تثقون فيه، أقبلوا اختلافاتكم الفكرية مقابل بقاء رصانتكم، هذا هو مشهدكم الخاص، أنتم وثلة باقية ممن يحبكم وتحبونه، ولا يزال ولاؤهم للمشهد الثقافي أو التعليمي أو الرياضي أو غيرها من تلك المشاهد التي اعتدتم التداول والتثقاف فيها، إنه مشهدكم الخاص، الذي تجتمعون حوله ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا!

Halemalbaarrak@