شاهر النهاري

حكاياتنا مع الموت

الاثنين - 04 يوليو 2022

Mon - 04 Jul 2022

يصعب تفسير استمرار توجسنا من مجرد طريا الموت، مع أنه يقينا وجزءا لا يتجزأ من حلقات سلسلة الحياة، المتلاحقة المتماسكة، بتأكيد كل دهشة ونشاز وتلاؤم، وكل تعلم، وترق أو جهل مطبق، وكل وهم ببلوغ عين الحقيقة، والتمرغ في الإيمان الأعمى، أو الشك، وجنوح للمستحيل، والشعور بقدرة تعالي الهامة للنظر من فوق حافة تطل على معظم مكونات ومجريات الدنيا، بتردد الجهل، وغرور من يظنه يعرف، وخوف من يتمنى الهرب، أو هواجس مشاعر الغافل الساهي، يجري وسط متاهات اختباء وبحث، نهاياتها مضحكة مبكية، ثم تفتق الحبال وتراكم الواقع، والدنو من السقوط الوشيك.

الموت لم يكن الحلقة الأولى من سرمدية المجهول، والرتوش، التي تفرقه عن مرحلة رعب البروز، والتواجد على ظهر الأرض، بوهن وصراخ وبكاء، وجهل كينونة ما يدور وسط مهرجانات حلقة جديدة، ضمن مراحل عبرناها وتعودناها، وليست مجرد خروج من نفق عسير، إلى براح مجهول الأعمدة والعوارض والمدى، والعمق، والمعاني، لنعرف أننا دون إرادة منا ننخرط في حلقات حكايات جديدة ملتوية نخالها تبدأ من الصفر، فنصبر ونتقبل كل ما فيها، ونتعلم ونستشف كل أنة ونبرة وبريق وحزن، ونحسب ونعيد كل جزئية تأتي، وتشعرنا رغم جدتها بأننا قد مررنا منها سابقا، بما لم يكن مدرَكا، وكأن شرائح ذاكرتنا تحتوي ما نحتاج من أدوات صدق وتماه لعبور المرحلة.

وقبل أن نفقد يقين ذلك مجددا، وبتدريج السهو الممل، والنسيان، وضمور كل ما فينا، حتى لا نعود نستفيد من وعي حواسنا، ومهما وثقنا بها وزادتنا غرورا، ومهما حملناها أكثر من طاقات استيعابها، ونسجنا حولها عهن عنكبوت، وامتطينا صهوات عنفوان رغباتها وغرورها، حتى تنحني أعناقها، وتتقلص أقدامها.

وبالرغم من شهوة مسارنا، نستشعر الفارق يحدث بالتسارع والتراخي والخدر، حتى تسقط آخر قدم، في حفرة، لا نعود نملك الخروج منها، ولا منع التقدم المتثاقل، فنتعاجز ونستحسن القرب من فوهة الغموض الكبرى، والاستسلام للفقد الكامل دون مقاومة.

يموت في كل ثانية آلاف البشر، يصرخ بعضهم من شدة الألم، والبعض يفقد الصوت والشوف، والبعض تائه يدري ولا يدري، وكأن ما يحدث أضغاث أحلام، أو هجعة خدر، أو بلوغ مراحل التسامي، أو الغرق في بحار اللاوعي، والبعض يبتسم، والبعض يتمنى الانخلاس من شرنقة الجسد، والهروب من آلام حيرة وكآبة منظر، فشل في تلافيها، أو أنها أنهكت ظهر قدرة البحث الحثيث عن قطرة منام الاستسلام لحلقة الرحيل بهدوء قبل عودة الفزع والشدة فيها.

ليس من يراقب، مثل من يعاني حيثية الرحيل بذاته بين الحلقات، فمشاعر المراقب طاغية الحضور والذاتية، والشدة والعنف والحزن والخوف، بينما يظل من يرحل يتسامى بفقاعاته إلى أخف التفرعات، منتهزا كل لحظة هدوء بين الحلقات المتعاقبة.

الموت المرحلي المتدرج بالسن والسكينة أيسر من الأنواع الأخرى، فبعد كل فقرة فقد، تتسع ساحات القبول والسكينة، وبعد كل حلحلة للقيود، تنطلق الروح إلى عروش علوية، فلا يعود يهمها ما حدث في مسارات الماضي.

التحفز للقادم يعفي عن النظر للفوارغ، وعن محاولات لملمتها وحملها لحلقة جديدة، فالخفة تحكم، وشنة ورنة للجديد، وحتى ولو صاحبته ضجة ميكانيكية الرحيل، ولواعج البكاء والخوف، ليستمر مسلسل الحياة بتوالد وتعاقب حلقاته المستديرة.

shaheralnahari@