عبدالله قاسم العنزي

القرائن وأثرها في تكوين قناعة القاضي

الأحد - 03 يوليو 2022

Sun - 03 Jul 2022

إن ضبط السلوك البشري بموجب قواعد قانونية تفرض الجزاء المقرر على ارتكاب الجرائم يصبح عديم الجدوى ما لم يقترن ذلك بتنظيم دقيق لإجراءات الوصول إلى ذلك الجزاء، وجوهر تلك الإجراءات هو نظام الإجراءات الجزائية والأهم منه في تقديري نظام الإثبات.

وإن معظم التشريعات حرصت على تأكيد مبدأ حرية الإثبات، وهذا لا يمنع أو يتعارض كليا مع قيام بعض التشريعات من تنظيم بعض وسائل الإثبات كالاعتراف والشهادة والخبرة والقرائن أو غيرها من أدلة الإثبات.

كما أن الاقتصار الوارد في نظام الإثبات على تنظيم بعض وسائل الإثبات لا يتنافى مع مبدأ الأخذ بحرية الإثبات بالنسبة للقاضي، ولذلك نصت المادة الـ54 من نظام الإثبات في الفقرة (7) على أن للقاضي الأخذ بأي إثبات رقمي يطمئن إليه وقصد المنظم السعودي من ذلك بناء مناخ رحب في إثبات كل ما هو جديد أو مستعص للوصول به إلى الحقيقة.

إن للقاضي الجزائي قناعة شخصية وهي من أهم مبادئ نظرية الإثبات؛ لأنه يتفق مع مقتضيات التفكير المنطقي، حيث إن القاضي يحكم حسب اقتناعه بالأدلة التي طرحت عليه في الدعوى ويتمتع في ذلك بسلطة واسعة في تحري الحقيقة حسبما يمليه عليه ضميره وله الحق في استبعاد أي دليل لا يرتاح إليه في مسار الدعوى وأن يحكم بناء على أي دليل يطمئن إليه سواء كان مباشرا أو غير مباشر كالقرائن مثلا وتطبيق ذلك، فيما اطلعت عليه من قضايا جنائية بأن شخصا متهما بحيازة مادة مخدرة ضبطت في سيارته الشخصية واعترف عند النيابة العامة ثم أنكر عند القاضي بأن كان اعترافه مكرها عليه فحكم بإدانته القاضي وكان من أسباب الحكم أن ضبط المادة المخدرة في سيارته الشخصية قرينة تعضد صحة إقراره عند النيابة العامة.

على أية حال تعد القرائن إحدى وسائل الإثبات بل أقدمها وقد ازدادت أهميتها بعد أن أثبت الممارسة والتجربة لدى المحاكم بخطورة كل من الشهادة والاعتراف وأنه لا بد من ضرورة تأكيدهما بطريقة موضوعية.

إن الإثبات بالقرائن هو إثبات غير مباشر؛ لأنه لا يقع على الواقعة المكونة للجريمة والتي وقعت ذاتها بل ينصب على واقعة أخرى إذا ثبتت أمكن أن يستخلص منها ثبوت الواقعة المطلوب إثباتها وتكون بينها وبين الواقعة الأصلية صلة سببية منطقية بحيث يستخلص من هذه الصلة نتيجة مفادها إثبات الواقعة الأصلية ونسبتها إلى المتهم من خلال ثبوت واقعة الأخرى التي لا يكون ثبوتها مقصودا لذاته بل للدلالة على ثبوت الواقعة الأصلية المجهولة وهذا حال ما ذكرناه سابقا في الحكم القضائي من قناعة القاضي بصحة اعتراف المتهم أمام النيابة العامة بغير إكراه من خلال ثبوت ضبط المادة المخدرة في سيارته الشخصية، حيث إن ثبوتها ليس مقصودا لذاته أمام إثبات صحة اعترافه.

إن جوهر القرينة هو العلاقة المنطقية يستنتجها القاضي بين الواقعة المعلومة المتمثلة في الدلائل المختلفة من جهة والواقعة المجهولة المراد إثباتها من جهة أخرى، وعملية الاستنتاج في هذه العلاقة المنطقية ليست مسألة سهلة ولكنها تتطلب مجهودا عقليا وفكريا يبذله القاضي للإحاطة بملف الدعوى وما يحتويه من ظروف وملابسات مختلفة تتجلى بصورة أوضح أثناء المرافعة ومناقشة أطراف القضية والوصول إلى ذلك يتطلب من القاضي ترتيب المقدمات منطقيا للوصول إلى نتائج.

وبلا شك فإن القرائن وليدة الظروف والحوادث وهي مختلفة ومتباينة من قضية إلى أخرى فلكل قضية لها ظروفها وملابساتها والتي تختلف عن ظروف وملابسات قضية أخرى ولو كانت من نفس النوع!

ختاما: لعل أبرز مبرر لمبدأ حرية القاضي في الوصول إلى اقتناعه الشخصي يكمن في الاعتماد الواسع على القرائن في مجال الإثبات، وذلك راجع بدوره إلى طبيعة الجرائم إذ قد ينعدم في أغلب الجرائم أي دليل من أدلة الإثبات الأخرى ولا يبقى أمام قاضي الموضوع إلا استنتاج القرائن والاعتماد عليها في عضد وتبين صحة الدليل.

expert_55@