خالد عبدالعزيز النويصر

وصيتي بعد موتي

الاثنين - 27 يونيو 2022

Mon - 27 Jun 2022

بعد موتي..

عندما تدق ساعة الحقيقة وينتهي العمر المحتوم، وأنتقل إلى عالمي الآخر، تذكروا أن وصيتي هي عشق الحياة وصناعة السعادة ونشرها.

انثروا التفاؤل والحب والأمل، استمتعوا بكل لحظة في حياتكم، لا تنسوا أنني -مثلكم- عاشق للحياة، أحب كل تفاصيلها وجمالها، لديّ إيمان راسخ بأن الموت، هو سفر إلى عالم جديد، رحلة نُحلّق فيها بعيدا عن البشر، نتسامى عن الأشياء، نودع الجشع والحسد والمرض والألم للأبد، ونذهب إلى عالم ملئ بالسعادة والاستقرار والأمان.

بعد موتي..

لا تبالغوا في الحزن، ولا ترتدوا الأسود، اضحكوا وابتسموا مهما كان وقع مصيبة الموت عليكم، تأنقوا والبسوا أجمل ثيابكم وأنتم تحملوني على أكتافكم وتذهبون بي إلى قبري، لا تنسوا في لحظة ما أنني ذاهب إلى نفس الدار التي احتضنت الأنبياء والعظماء، الحكام والفلاسفة، أجدادنا وآباءنا، بل وأعز شبابنا وفلذات أكبادنا.

بعد موتي..

دعوني أستمتع بلحظات الانتقال إلى حياة أخرى، أرقى وأفضل وأجمل، كيف لا؟! وأهم من أنجبت البشرية الرسول الكريم محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم-، يقول في حديث صحيح "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه".

ويذهب الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال إلى أنه "ليس هناك خير في الحياة إلا الأمل في حياة أخرى، ولا يكون المرء سعيدا إلا بقدر اقترابه من هذا الأمل"، ويرى هيجل أهم فلاسفة ألمانيا "أن الموت هو الحب ذاته، ففي الموت يتكشف الحب المطلق"، وكذلك الفيلسوف الشهير رينيه ديكارت الذي يقول: "لا أستطيع التفكير في أولئك الذين ماتوا إلا باعتبارهم ينتقلون إلى حياة أكثر سلاما وعذوبة من حياتنا، وأننا سننضم إليهم يوما ما".

بعد موتي..

لا تمارسوا العادات والطقوس المعتادة، عزاء طويل، طعام للمعزين، وغيرها من التصرفات التي هَرِمنا ونحن نشاهدها كل يوم من حولنا وأصبحنا مبرمجين لتأديتها دون أي تفكير، لا تؤثر عليكم الموروثات القديمة، ما المشكلة في أن نستبدل كل ذلك بلقاء لمدة ساعة واحدة، بدلا من المبالغة عدة أيام في الحزن، أو أن تؤدوا الواجب عبر التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، مثل: (الواتس أب أو الزوم، أو حتى ميتفرس) -الذي عشقته وأدمنت حبه رغم قصر الفترة التي استخدمته خلالها- بدلا من إضاعة وقتكم في ثلاثة أيام عزاء تزيدكم ألما، خصوصا أن كثيرا من هذه المراسم تحولت إلى لقاءات اجتماعية للتعارف والسواليف، وخرجت عن هدفها الأساسي.

افرحوا وانبسطوا، فأنا ذاهب لملاقاة ربي، ذاهب وسعادتي لا حدود لها، ودعوني بكلمة طيبة.. دون أن تنسوني من دعواتكم.

بعد موتي..

أقول لزوجتي وأبنائي وأصدقائي المحبين لا تتوقفوا عن أعمالكم أو تحصلوا على إجازات من أجلي، طبقوا المثل الإنجليزي الذي يقول "دعه يعمل.. دعه يمر"، تأكدوا أن الحياة لن تتوقف عندي.. مثلما لم تتوقف عند من سبقوني.

عليكم أن تدركوا أن نجاحكم وسعادتكم هي أكثر ما يشغلني وهي أكبر محفز لي، وأنا في طريقي للعالم الآخر، أشعر بكم، وأدرك ما بداخلكم، وأوصيكم بأن تستمر الحياة.

بعد موتي..

تعاملوا مع عائلتي الصغيرة وأسرتي الكبيرة وكأنني موجود، تذكروا أن الأجساد فقط هي التي تفنى، أما الروح فإنها تتلاقى في العالم الأبدي.

امسحوا أي دمعة حزن على وجوه أبنائي، ذكروهم دائما بأنني كنت عاشقا للحياة.

أدعوا أبنائي أن يكملوا كل المبادرات والمشروعات التي بدأتها، خصوصا ما يتعلق برؤيتي الشخصية 2050 -إذا كان ذلك يتفق مع توجهاتهم وتطلعاتهم-، والتي وضعتها وأتمنى أن يكتب لي العمر حتى أكملها، فقد جبلت على السعي لمعرفة فن الحياة وحبها وعشقها، والاستثمار في التعلم، وكسب المهارات في كل المجالات، وزدت قناعة بأنني كلما قرأت وتعلمت أدركت مدى عمق جهلي في هذه الدنيا الشاسعة، وآمنت بأن الخبرة والمهارات وقيمة الحياة الحقيقية لا تقاس بمال أو جاه، إنما بالاطلاع والمعرفة.

لا تتوقفوا -أبنائي- لو آتاني الأجل المحتوم قبل إكمالها، فهي تحمل خارطة أمل لا يحدها سقف الزمان أو حدود المكان، وتذكروا أن الحياة -رغم منغصاتها وآلامها- هدية من هدايا الله.

بعد موتي..

اصنعوا السعادة في كل أرجاء الوطن الحبيب، بعدما تحولت إلى صناعة كبيرة في هذا العهد الزاهر، يكفينا ما عشناه من سنوات طويلة في الظلام والانغلاق.

واصلوا بناء وطنكم الطموح، بسواعد الرجال والنساء معا، لا تتخلوا عن "الإرادة" القوية التي صنعت هذا التحول الجبار في سنوات قليلة، كونوا يدا واحدة ضد من يحاول أن ينال من وحدتكم، أو يحبط من عزيمتكم.

بعد موتي..

أخيرا.. مهلا.. مهلا.. ثم مهلا يا حاملي الكفن ودافعي التراب، ارسموا ابتسامة خفيفة على وجوهكم، لا تذرفوا الدمع، مازالت أمامكم الكثير من القصص والحكايات المبهجة، مازال لديكم نعم كثيرة منحكم الله، إياكم من جهل الإنسان عندما يتأمل فيما لا يملكه بدلا من التمتع بما حباه الله من نعم لا تعد ولا تحصى أو يقارن نفسه بالآخرين، رغم أن كل شيء مقسوم من قبل أن يولد الإنسان.

تأكدوا أن الحياة لا تقاس بمال أو جاه، وإنما بالرضا والقناعة، وثلاثة أنواع من التصالح لا يبلغها إلا الحكماء، وهي التصالح مع الذات، والتصالح مع الواقع، والتصالح مع القدر.

تمهلوا.. مازال لديكم صحة وعافية حتى لو لم يتبق إلا نبضات قلب تدق حبا وأملا وعشقا للحياة فهذا كاف رغم كل الآلام والمواجع.

لن أطلب منكم ما قاله الشاعر المبدع حمد العسعوس الخالدي على الراحل الكبير غازي القصيبي:

لا تدفنوهُ .. فإنَّ الدَّفنَ يرفضهُ

لا تدفنوهُ .. فإنَّ الدَّفن إنكارُ..؟!

هذا الذي بين أيديكم جنازتُه

بدرٌ .. وبحرٌ .. وإبداعٌ .. وأفكارُ


بل على النقيض، أستميحكم عذراً أن تتوقفوا عن طقوسكم الحزينة وكلمات الرثاء المؤثرة، التي تحدث كل يوم عند فراق الأحباب، أذكركم فقط بأن لكل شيء بداية ونهاية.

بعد موتي..

أتمنى من زوجتي وأبنائي وأحبابي، أن يطلقوا جائزة لمن يعشق الحياة وينذر نفسه لفهمها والتمتع بها، يتوج بها من يصنع السعادة في مملكة الإنسانية، من ينشر ثقافة الحب والتفاؤل، جائزة يستحقها من يحول أحزان الناس إلى ابتسامة صافية، ينالها من هم مقبلون على الحياة، بصرف النظر عن عمرهم أو معاناتهم، يعشقونها حتى آخر رمق.

أتمنى بعد موتي اختفاء ثقافة البغض والكراهية والإحباط والاستسلام، وأن تبتعدوا عن الأخبار المسمومة والأشخاص ذوي الطاقة السلبية.

أرجوكم.. أرجوكم.. ثم أرجوكم، ابتعدوا عن ذلك كله، فالعمر مرة واحدة، والحياة قصيرة جدا، ولا تستحق كل هذا العناء، فهي لوحة فنية بارعة صنعها لنا الباري عز وجل لنعيشها.

انقلوا عني أن الموت هو امتداد للفرح والسعادة، تحول إلى عالم آخر أبدي ومثالي.. لا يعرف الزيف والنفاق والكذب.

أخيرا.. أرجو ألا تصلكم وصيتي بصورة تشاؤمية؛ لأنها دعوة للحياة، افرحوا وارقصوا وعيشوا وتمتعوا بكل أوقاتكم.. كم سأكون سعيدا لو فعلتم ذلك؟ فنحن جميعا راحلون.. راحلون.. راحلون.

@kalnowaiser