عبدالحليم البراك

من العملية للتأمل!

الاثنين - 27 يونيو 2022

Mon - 27 Jun 2022

معظم الناس عمليون، لكن معظم المتأملين غير عمليين، وكأنها قسمة عادلة بين الناس، وعطفا على الفيلسوف أرنولد توينبي «فإن الغرب العملي تفوق على روح التأمل والروحانية في العالم بينما على العالم أن يتبع القيم أكثر»، وبناء عليه فإن الناس عمليون لأنهم بحاجة للحياة، وإن قوام الحياة هي العملية، بينما التأمل لا يهم الناس كثيرا ما لم يتحول التأمل إلى إنتاج، والفكرة الأساسية أن العظماء قد يكونون متطرفين في التأمل، أو متطرفين في العملية، أما تركيبة الخليط بين التأمل والعملية فهي تكاد تختفي، وأبرز مثال على حلم الإنسان بالإنسان العملي المتأمل هو ما كان يحلم به أفلاطون من أن يحكم الفلاسفة العالم، باعتبار أنهم متأملون يسيطرون على الحياة العملية، وهو ما لم يحدث إطلاقا، أو إن حدث فهو حالات فردية ولم يحدث بشكل واسع.

أما نماذج العملية بلا تأمل؛ فالتتار والفايكنج أمثلة صريحة على تعطل العقل وتغلب القوة وسيطرتها على الحياة مقابل إهمال الفكر والتأمل، وأما نماذج التأمل الخالي من العملية فلا أدل من ذلك على مثالين اثنين هما سقراط وإيمانويل كانط، فلم يترجم سقراط فكره إلا حدث موته، بينما لم يغادر إيمانويل كانط مدينته الصغيرة في بروسيا ولا مرة واحدة، ولم يساهم في شيء إلا في التدريس والتأمل الفلسفي العميق جدا، والذي ترك أثره حتى الآن، فكل الفلاسفة بحاجة لكانط سواء اتفقوا معه (في نظرية المعرفة) أو اختلفوا معه.

وثمة مثال آخر وصل في تأمله حد الجنون وهو نتيشه لكن لم ينتج أي عملية تذكر، إلا إذا صدق أنه كان ملهما للنازية!

التأمل يعني: القدرة على تحليل الأشياء ثم تصور مآلها ثم تقعيد ما يجب نحوها والعلاقة معها وتسخيرها للإنسان، وهذه مميزات عظيمة لكنها حبيسة الورق والعقل، وإن كان ثمة أثر لها فهو تأثير من تلقفها وحولها إلى ناحية عملية، والتأمل هو قدرة الإنسان على استشراف المستقبل وتخيل حال العالم بعد سنوات أو على الأقل حال العالم بعد إحداث التغييرات الفكرية التي تخيلها إن تحولت لواقع، إلا أن الإنسان العادي يحتقر ويقلل من التأمل ما لم يكن له نتائج عملية تنعكس عليه وإلا أطلق عليها عدة مسميات تقلل من قدرها مثل: سفسطة أو فلسفة برغم أن هذه التسميات عظيمة للغاية لكن بسبب أنها لم تترك أثرا عمليا لدى العامة صارت «شتيمة»!

أما العملية فهي إبهار الإنسان الآخر بالنتائج وليس بالفكر، ويقدس الإنسان الإنتاج ولا يهتم بالفكر اهتمامه بالإنتاج، لأن قوام الإنسان هو الإنتاج وليس الفكر، فالعملية لا تفكر بل تنتج، والعملية هدفها الأساس هو تحقيق الأهداف (بغض النظر عن حسن الأهداف أو سوئها) فالإنسان مشدوها بالمال وجمعه وليس بكيفية الوصول للفكرة الأساسية بجمعه، وسيطرة الدول على الدول الأخرى بالقوة لا بفكرة بناء القوة الذي تم من أجل السيطرة، ولا تهم الخطط مقابل القوة للحصول على السيطرة.

إن الفكرة الأساسية؛ أن التأمل والعقل والفكر هو حجر الأساس للإنسان، لكن الإنسان قلل من هذه الميزة تحت ذريعة الإنتاج والقوة والسيطرة، ولو تهيأت للفكر قوة؛ لصار مدهشا وعظيما، وهنا يبرز الفرق بين مقولة الفلاسفة «العلم لا يفكر في نفسه» وتخليه عن القيم وبين القيم عندما تكون أساسا للعمل والإنتاج.

Halemalbaarrak@