زيد الفضيل

الخلق شهود الله

السبت - 25 يونيو 2022

Sat - 25 Jun 2022

لفت نظري حديث سابق لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، يحفظه الله، تم تداوله بكثافة على مختلف وسائط التواصل الاجتماعي، يشدد فيه على ضعف الإنسان مهما بلغ من قوة ونفوذ، حيث قال في حديث عام له «الإنسان ضعيف، الإنسان بشر، والإنسان مهما بلغ من السلطة والنفوذ والعلم والمال وحتى القوة الجسدية، يوما من الأيام سيواجه ربه تحت الثرى، تحت التراب، كما هو تراب، فلنعمل لهذا اليوم؛ ديننا يفرض علينا أن ننظر لما بعد الحياة، أن ننظر لما بعد القوة، لما بعد المال، لما بعد النفوذ، لما بعد السلطة، لما بعد العلم، هل عملنا في دنيانا نافع، نرجو من الله عز وجل أن يرحمنا عندما لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم».

ما أحكم هذا القول من ملك حكيم، وكم تأملت تقريره الدقيق لحقيقة الإنسان وهو أنه من تراب، والعاقل من يدرك دلالة ذلك فلا يصول ويجول بكبر وافتخار. وكم هو مسكين ذلك الإنسان الذي ينسى نفسه ويظن أنه قد بلغ الجبال طولا، وصدق الله في محكم كتابه حين شخص هذا الداء فقال في سورة الإسراء (ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا).

في هذا السياق تبرز أمامي كلمات الشاعر المهجري الكبير الراحل إيليا أبوماضي، الذي كتب قصيدة خالدة في مضمونها ودلالتها وعمق بصيرتها، واختار أن يجسد معانيها بلغة دقيقة لا مواربة فيها أو تورية، فأسماها قصيدة «الطين» لتدل على حقيقة الإنسان، ذلك الذي يغيب عن ذهنه طبيعة تكوينه ووجوده في زحمة ما هو فيه من متع ومزايا، فيظن جهلا وغرورا أنه مخلوق أبدي لا يفنى، ليأتي أبوماضي ويعيده إلى كينونته بكلماته الخالدة والتي منها:

نسي الطين ساعة أنه طين حقير فصال تيها وعربد

وكسى الخز جسمه فتباهى وحوى المال كيسه فتمرد

يا أخي لا تمل بوجهك عني ما أنا فحمة ولا أَنت فرقد

أنت لم تصنع الحرير الذي تلبس واللؤلؤ الذي تتقلد

أنت لا تأكل النضار إذا جعت ولا تشرب الجمان المنضد

أنت في البردة الموشاة مثلي في كسائي الرديم تشقى وتسعد

لك في عالم النهار أماني ورؤى والظلام فوقك ممتد

أنت مثلي يبش وجهك للنعمى وفي حالة المصيبة يكمد

إذن هو الإنسان الباقي بقيمه وأخلاقه وطيب معشره، هو الإنسان الخالد بحسن قوله وفعله بين الناس، هو الإنسان العادل والرحيم الذي يأبى أن يظلم أو يتجبر، ويسعى بذاته وجاهه وماله لخدمة من يستجير به بقدر استطاعته ودون منة أو تباه، هو الإنسان الذي يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه، فيبتسم لهم ويتلطف معهم ويجبر خواطرهم بكلمة وفعل حسن وبماله إن أمكنه ذلك، هو الإنسان الذي لم يتوان عن مساعدة الآخرين وتفريج كربهم فيفرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.

إنه الإنسان الذي يحزن لغيابه الآخرون، وتبكيه الثكالى، ويجتمع الخلق لمرافقته لمثواه الأخير وهم يثنون عليه ويذكرونه بخير، وما أجله من مكسب وأعظمها من فائدة وأبقاها من منفعة، حين لا ينفع مال ولا بنين، ولا يبقى سوى العمل الصالح والذكر الحسن، ورحم الله أحمد شوقي حين يقول:

دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني

في هذا الإطار أشير إلى أنه قد غادرنا قبل أيام «رجل هو من أكرم رجال مدينة جدة، كان يقصده القاصي والداني، يبذل المال والجاه لكل محتاج، إنه العم عثمان عبدالعزيز صقر الذي جاء الخلق من كل مكان للعزاء فيه، فهو الكريم الذي أحبه الله فحبب فيه خلقه، رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته».

هكذا جاءت شهادة أحد شهود الله وهو المستشار أحمد باديب في تغريدته التي كتبها، وهو ما ردده كثير غيره أمامي على الرغم من أنه ليس بيني وبين المتوفى أي معرفة من قبل، وكان من أجل ما ذكروه أنه كان يبذل ذاته وجاهه لخدمة الآخرين ولو لم يكن يعرفهم، محسنا الظن بهم، ولعمري فذلك من أكبر البذل وأعظمه، وهي صفة لا يقوم بها سوى الكبار في أقوامهم ممن تجذرت خدمة الناس وتفريج كربهم في عروقهم. فرحم الله كل من كان من أولئك، وأورثنا أمثالهم، ولا حرم مجتمعنا من أولئك السامية نفوسهم، العالية أخلاقهم، الطيبة صدورهم، الحريصون على خدمة الآخرين مروءة وكرما وأصالة.

zash113@