شاهر النهاري

الباحثون عن الحقائق حتى آخر نفس

الاثنين - 20 يونيو 2022

Mon - 20 Jun 2022

الفكر ليس مادة ملموسة محددة، مثل حجم الدماغ مثلا؛ فعندما يقرر العلماء أن حجوم أمخاخ البشر متناسبة مع أحجام رؤوسهم، لا يمكن أن نطبق ذلك على مقدرة العقول على التفكير والارتقاء، ولا في انتقاء وتتبع دروب البحث عن الحقائق بإصرار حتى نهاياتها؛ فالحقيقة طبقات بعضها فوق بعض، لا يمكن التنبؤ باكتمالها، كونها تتجدد بالتغيير والتحسين والشك والمقارنة ومواجهة المسلمات القديمة بالنقد المنطقي الشجاع.

الطفل الرضيع يبتدئ أنفاس حياته باحثا عن الحقائق المتنوعة من حوله، بحواسه، وغرائزه، ووسائله المكتسبة مع الزمن للتقليد والقياس والحساب والسؤال والمغامرة، وشيئا فشيئا، يتعرف على بعض ذاته، ومشاعره، وحقائق محيطه، وجدوى سعيه في الأرض، وتجشم العناء، ورسم الأهداف البسيطة والعظيمة، والسعي لتحقيقها، بمعانقة مستجدات المعارف والعلوم، وسبر حقائق المعتقدات والكون، وبقدرته على اختيار مسارات ربما تأخذه لمستويات معرفة أعلى، وربما يفشل بالاصطدام بإحدى خرسانات مسلمات الحياة.

الأغلبية العظمى من البشر يتوقفون عن التفكير والبحث عند سن مبكرة، ويذعنون لأفكار وقوالب معينة، مسلمين بأن خلاصة الحقيقة مملوكة لأحد ممن بحثوا فيها من جيلهم، أو من السابقين، فيختمون لهم على بياض، ويتبعونهم حذو القذة بالقذة، ويغلقون أعينهم، وأسماع وعيهم، بتبعية تعجزهم عن استيعاب الجديد، وترعبهم من مواجهة أي شك أو فكر مختلف عن مسلماتهم.

الحقيقة تظل ضالة يقين الإنسان الحر واسع المدارك، وصاحب العقل المنهجي، الذي يمتلك أدوات الفهم والشك، ويطرح أسئلة لا تنتهي، بغرض البحث عن أدلة فكرية ومادية جديدة، وأجوبة صادقة منطقية، فلا يتوقف عن البحث حتى وهو يحتضن النزع الأخير.

ندرة بيننا هم من يستمرون في التساؤل للنهايات، ولا يعجزهم اختلافنا معهم على جدوى وسائلهم المتبعة، وإنكارنا لمناهج بحثهم، واتهامهم بالتناقض مع المألوف السائد، أو بنشوز أفكارهم حسب ضيق خواطرنا ومناهجنا ورؤيتنا، ومهما حاولنا جاهدين تحييدهم وتهديدهم وتحطيمهم، وتجميدهم في مسار متيبس اتفقت عليه الأغلبية، وكأننا أوصياء على تفتق المدارك.

هم عنيدون، ولكنهم حقيقة من يعمرون الأرض، بنورانيتهم، ومبادراتهم، وسعيهم، وهم يفتحون للبشرية أبوابا مستقبلية، ويكتشفون الجديد في الفكر المنطقي والعلوم والمخترعات، ويسطرون أسمائهم بحروف الذهب على ركائز صروح الثقافات الإنسانية، ومهما استجدت بعدهم مكتشفات تاريخية، ونظرية، وعلمية وتقنية يظلون من أصحاب المفاتيح.

فتجد أحدهم، رغم كبر سنه، ما يزال كل من حوله يشعر بأنه في عز شباب فكره ومخيلته، يستيقظ يومه بروح تفاؤل تعيد ترتيب أفكار الأمس وتنسيقها لتستوعب الغد، بأحلام يقظة جديدة، تغسل من قعر دماغه ما لا يتوافق مع سلامة الفكر الآني، وتغازل الأفكار الجريئة، حتى وإن كساها محيطه بالأملاح، فيسعى لئلا يجد نفسه متكلسا حول عمود صخري عتيق.

ما أجمل حياتهم المتجددة المشوقة، والتي لا تتوقف قوافل سفرها ودهشتها، فهي تحسن وتطور مرئياتها يوما بعد يوم، فلا يشيخ لبها، ولا تتصلب شرايين تخيلها، وتظل ندا للقادم مهما بدى مدهشا مستحيلا، للمحافظة على الرشاقة النفسية، بطموح مدرك لا يهرم، ولا يتعاجز، ولا ينتهي، وحتى ولو كان على فراش الموت، فإن لمعة عينه الشغوفة تظل تنبض بالأمل، وقلبه يتعاظم عشقا لتشرب حرية الفكر دون قيود، والعدالة الإنسانية للجميع، والوعي يستوطن، والسلام للكائنات والكون، والتطورات في وعيه شلالات عطاء تنهمل.

shaheralnahari@