طامي الشمراني

الثقافة العلمية والثقافة الأدبية صراع أم تكامل؟

الخميس - 16 يونيو 2022

Thu - 16 Jun 2022

إن الثقافة كما يشير محمود السيد، ظاهرة إنسانية؛ فهي فاصل نوعي بين الإنسان وسائر المخلوقات، لأنها تعبر عن إنسانيته، وهي الوسيلة المثلى لالتقاء الآخرين، وتحدد ذات الإنسان وعلاقاته بنظرائه وبالطبيعة، وما وراء الطبيعة، من خلال تفاعله معها، وعلاقاته بها في مختلف مجالات الحياة، وهي قوام الحياة الاجتماعية وظيفة وحركة، فما من عمل إنساني فني أو جمالي أو علمي يتم خارج دائرتها.

ويرى أشرف فقيه أنه بعدما شهد القرن العشرون اتساعا في الهوة الفاصلة ما بين العلوم الإنسانية كالفلسفة والآداب من جهة، والعلوم الدقيقة كالفيزياء والكيمياء والهندسة من جهة أخرى، ظهرت محاولات للتوفيق ما بين هاتين الطائفتين من المعارف الإنسانية، وقد وصل بعض هذه المحاولات إلى التبشير بثقافة ثالثة تجمع هاتين الطائفتين لتحل محلهما.

مع بداية النصف الثاني من القرن الماضي، أثار عالم الفيزياء والروائي البريطاني «تشارلز بيرسي سنو» نقاشا حول أحد مظاهر المجتمعات الحديثة، وهو «انقسام المثقفين» الحاد إلى فئتين: المثقفين الأدبيين من جانب الذين بصورة ما يحتكرون لقب: «مثقف»، والعلماء على الجانب الآخر، في ظل انقطاع التواصل بين أفراد الفئتين؛ الذي يراه الكاتب أحد أسباب التأخر في فهم المشكلات وتحليلها داخل المجتمعات، مما يؤدي إلى إعاقة تقدم الحياة البشرية.

أصل طروحات سنو كانت في محاضرة بعنوان: «الثقافتان» عام 1958م، نشرت فيما بعد في كتيب حمل عنوان (الثقافتان، والثورة العلمية)، ناقش فيه صراع الثقافتين (العلمية والأدبية) ودور التعليم في تعزيز الانقسام بينهما، ومسائل وآفاق الثورة العلمية التكنولوجية التي أدخلت الحضارة الإنسانية في مرحلة ما بعد الثورة الصناعية، ولعل أهم ميزتين في الكتاب أنه أولا: صادر عن كاتب جمع الثقافتين العلمية والأدبية، فهو عالم فيزيائي وروائي، مما وسم طروحاته بالموضوعية، وثانيا: أن أفكاره ما زالت طازجة ومطروحة للبحث حتى اللحظة الراهنة.

يحدد سنو ماهية المشكلة وأصل الصراع بينهما، فيرى أن الحياة الفكرية في المجتمع الغربي بأكمله تمعن في الانقسام المتعاظم بين مجموعتين متعاكستين في القدرة على استقطاب الناس، الأولى: هي مجموعة المثقفين الأدبيين الذين احتكروا وصف (مثقف) عليهم دون سواهم. والثانية: مجموعة المثقفين العلميين، وأكثر من يمثلهم ويعبر عن خواصهم هم الفيزيائيون. ويمتلك كل قطب تصورا ذهنيا يكتنفه التشوه والغرابة بشأن الطرف المقابل.

يمتلك غير العلميين انطباعا راسخا وعميقا يقوم على أساس أن العلميين متفائلون تفاؤلا ضحلا واهي الأسباب، وأنهم يجهلون وضع الإنسان الحقيقي، وفي الجهة المقابلة يعتقد العلميون أن المثقفين الأدبيين تعوزهم البصيرة، وأنهم لا يكترثون بإخوانهم البشر، ولا بالمشكلات التي يواجهونها، وقد أظهر سنو أن تفاؤل العلميين نحتاجه جميعا لأننا نحتاجه في حل كثير من محن البشرية، وأن واقع الحال هو أن الأدب يتغير بطريقة أبطأ بكثير مما يفعل العلم، لأن الأدب لا يمتلك آلية التصحيح ذاتها التي يمتلكها العلم، كما أن الأعضاء المنضوين تحت الثقافة العلمية يمتلكون توجهات مشتركة بينهم، ونماذج سلوكية ومقاربات مشتركة، لا نجدها عند غير العلماء، فالاختلافات بينهم أكثر بكثير لأنها متأثرة بانتساباتهم السياسية والدينية والطبقية.

ويلقي الجهل بالعلم بظلاله على جميع المثقفين من غير العلماء، مما يجعل الثقافة التقليدية تحكم قبضتها على العالم الغربي، ولم يوهنها انبثاق الثقافة العلمية سوى بنزر يسير يكاد لا يذكر، مما ينجم عن هذا الاستقطاب المتعاكس خسائر على المستويات العلمية والفكرية والإبداعية، فمن المدهش للغاية بحسب سنو أن يكون القليل للغاية من علم القرن العشرين قد تم تمثله وتوظيفه في فن القرن العشرين، فالصواب أن يتم تمثيل العلم كجزء أصيل مع المنظومة التي تشكل هيكل تجربتنا العقلية كلها من خلال استخدامه بشكل طبيعي في تجربتنا من غير تكلف.

لا شك أن هذا الصراع بين الثقافتين العلمية والأدبية ما زال قائما في المجتمعات كلها، ومنها مجتمعاتنا العربية مما يشكل صراعا وقطيعة معرفية تمنع تكامل هاتين الثقافتين اللتين تشكلان عصب الحياة، من هنا فإن محاولة التوفيق بينهما عبر طرح مصطلح الثقافة الثالثة التي تجمع ما بين هاتين الثقافتين قد تكون الطرح الأقرب للموضوعية، ولكن لا شك أنها في حاجة إلى جهود طيبة وكبيرة وحسنة النوايا يقوم بها مثقفون ينتمون إلى تلك الثقافتين، فهل من مستجيب؟