بندر الزهراني

بيتر هيغز ومخاوف الوظيفة الجامعية!

السبت - 11 يونيو 2022

Sat - 11 Jun 2022

بعث لي أحد الزملاء لقاء قديما أجرته صحيفة الغارديان مع الفيزيائي البريطاني بيتر هيغز (Peter Higgs)، قبيل توجهه إلى العاصمة السويدية استوكهولم، لاستلام جائزة نوبل في العلوم عام 2013م، وذكر هيغز في حديثه أنه يخشى في ظل النظام الأكاديمي المتبع هذه الأيام ألا يجد أي جامعة تقبل بتوظيفه، لأنه لا ينشر أبحاثا علمية كثيرة! بخلاف ما هو مطلوب اليوم في معظم الجامعات، حيث إنه لم ينشر منذ عام 1964م إلا بضعة أبحاث، لا يتجاوز عددها العشرة، جدير بالقول أن هيغز في عام 1964م حدد آلية اكتساب الجسيم دون الذري للكتلة، وإليه ينسب Higgs boson وعلى ذلك تم ترشيحه لنيل الجائزة عام 1980م، ولكنه لم يحصل عليها إلا في عام 2013م وهو في الرابعة والثمانين من عمره.

وبالرغم من أن الحوار مع هيغز كان قصيرا، إلا أنه مثير للانتباه، وجدير بالملاحظة والاهتمام، ومما لفت انتباهي أن هيغز يرى من الصعوبة بمكان على الأكاديميين -في وضعهم الطبيعي- إنتاج أبحاث علمية رصينة في أجواء ممتلئة بالشحن والضغوط النفسية، يعني تلك الضغوط التي تمارسها بعض الإدارات الأكاديمية، كالمطالبات المستمرة بالنشر العلمي المرتبط بإبقاء الأكاديميين في وظائفهم أو إنهاء عقودهم (publish or perish)، ويشكك هو نفسه إن كان بمقدوره هذه الأيام تكرار ما فعله عام 1964م، فالإنجازات العلمية الحقيقية لا تتم إلا في أجواء طبيعية، فيها من الهدوء والاستقرار الذهني ما يؤجج في النفس دوافع الإبداع، ويحفزها على التميز والإنجاز.

ويروي هيغز معاناته مع إدارة الجامعة، وما كان يواجهه من الإحراج في كل عام، خاصة عندما كان يقوم بتعبئة استمارة قائمة الأبحاث السنوية، ويكتب في كل مرة أنه لم ينشر شيئا جديدا، وأن الجامعة كانت تود التخلص منه بأي شكل من الأشكال، لولا أنها كانت تنتظر حصوله على جائزة نوبل في العلوم، على اعتبار أنه سبق وقد رشح لنيلها، وأوضح هيغز أنه تعرض للأذى والمضايقات في عمله أكثر من مرة، وتحت ظروف مختلفة، وكل ذلك بسبب آرائه الصريحة وخلافاته الكثيرة مع مدير الجامعة.

التعاون المستمر بين العلماء، وتبادل الخبرة والتشارك البحثي أمر في غاية الأهمية، فالأفكار العلمية تلتقي وتتلاقح لتنتج أفكارا عظيمة، والناظر لأعمال هيغز يجدها رغم قلتها إلا أنها تلتقي مع أفكار زميله البلجيكي فرانسوا انغليرت (Francois Englert) الذي نال جائزة نوبل مناصفة معه، وكلاهما طور أفكار الياباني يوتشيرو نامبو (Yoichiro Nambu) وهو الحاصل على جائزة نوبل في العام 2008م، مثل هذه التعاونات المثمرة فعلا وإنجازا، هي التي تلتقي بدوافع علمية بحتة، لا بدوافع تنافسية المراكز والتصنيفات بين الجامعات، فتكون النتيجة عندئذ أسمى الجوائز العلمية، وأجل ما يخدم البشرية!

شخصيا، لا أعلم لماذا توقف بيتر هيغز عن الإبداع الفيزيائي، وعن الابتكار المعرفي، ولا أجد له سببا مقنعا ومعقولا يمنعه عن الإنتاج العلمي، أو عذرا يعذره عن الاكتشاف ومواصلة الإنجازات، اللهم إلا شيء واحد، إذا ما أخذ بعين الاعتبار: آراء هيغز الحرة التي دائما ما تميزه عن غيره كعالم، واختلاف وجهات نظره مع الإدارة المهيمنة على أنشطة البحث العلمي، تجعله عرضة للمضايقة المستمرة، أقول ربما تكون هي وراء انقطاع إلهامه الإبداعي، وجفاف مناهل ذهنيته المتدفقة!

ومما يشد الانتباه ويزيد الفضول أن هيغز أرسل بحثه عام 1964م إلى إحدى المجلات العلمية المرموقة فرفضت نشره، على اعتبار أنه لا يحتوي إضافات جوهرية، وهو البحث الذي حوى آلية هيغز، ثم عاد وأرسله لمجلة علمية أخرى، فقبلته ونشرته، فكان ذلك البحث فتحا مبينا، وإنجازا عظيما في علوم الفيزياء النظرية، وقد تكون حياة هذا العالم الفذ بما فيها من جدل وغموض أنموذجا جيدا للعلماء الواعدين، دون النظر لحياته الشخصية التي لا تصلح أن تعمم كأنموذج حياة صالح للمحاكاة والتقليد.

أرجو الله أن يأتي اليوم الذي أكتب فيه عن أحد علماء (موهبة) الواعدين، وقد رشح أحدهم لجائزة نوبل في الفيزياء، أو أي علم آخر، ولو ببحث علمي رصين واحد، لم لا؟! فعلماؤنا الصغار واعدون بكل ما تحمله الكلمة من معنى، والدولة -حفظها الله- توليهم فائق الاهتمام والعناية، وإنني متفائل أكثر من أي وقت مضى، فتفاءلوا معي!

drbmaz@