زيد الفضيل

محمد بابا وعصر الرشيد

السبت - 11 يونيو 2022

Sat - 11 Jun 2022

عرفته في صحيفة مكة، تابعته وتابعني بعد ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قرأته وأدركت أن في جعبته شيئا طيبا، وغيرة حنونة، ولحظة فارقة كانت تتجلى بل وتتفتق عبر غرف الدردشات، ليظهر ذلك الإنسان المحب لأهله ووطنه ودينه، الذي يتألم لحال قومه وقد تشتتوا في الآفاق بين قول هنا وفكرة هناك، بعضها صحيح، والآخر لم يجد له وجها ليقبله.

إنه الزميل الكاتب محمد أحمد بابا الذي غادرنا بالأمس القريب بعد معاناة مرض أليم داهمه، فعاش وجعه بصبر وتحمل ورضا حتى حانت الساعة التي لا بد منها، فغادر بهدوء العارفين، ليترك أثرا ظاهرا وخفيا في كل من عرفه وتابعه واختلف معه، ولعمري فتلك صفة الطيبين الصادقين، وما أجملها من صفة يتحلى بها باحث عن معرفة، صادق في توجهه، وكم بات هؤلاء نادرين في مجتمعنا الذي غلب عليه التمظهر محبة في البروز، حتى لو اقتضى الأمر الفحش في القول، والتعدي على الله الصبور الحليم.

لقد كان الراحل محمد بابا المديني مولدا ومقاما ومسكنا، نموذجا لذلك الباحث الغيور المشفق على البعض مما هم فيه من شتات واضطراب في الفكر باسم التأمل والتدبر تارة، والتحليل والتحرر من قيد المسلمات دون منهج تارة أخرى، وأتصور أن ذلك ما صار عليه الغالب من أولئك المتمظهرين على الساحة حاليا، الذين يبحثون عن كل فكرة غريبة ليبدؤوا في تبنيها، ثم الدندنة عليها وطرحها في كل محفل ومكان بحجة إثارة النقاش حولها، وفي واقع الحال فبغيتهم ليس ذلك، وإنما إثارة النقاش حول ذواتهم بحثا عن الشهرة وليس غير ذلك، ولعمري فتلك هي الشهرة الشيطانية وليتهم يدركون.

في هذا الإطار أشير إلى أننا نعيش تماثلا يكاد يكون متطابقا بين واقع النقاش المنفلت في عصرنا هذا الذي تتجاذبه أفكار مختلفة عبر وسائط التواصل المجتمعي، وبين عصر الرشيد تحديدا في العهد العباسي، حيث ابتدأ في عهده عصر الكلام جراء الانفتاح على مختلف الثقافات الفكرية بسبب أعمال الترجمة من جانب، ودخول عديد من البلاد الحضارية في حكم المسلمين وسلطتهم، وكان أن ظهرت العديد من الأفكار المختلفة التي لاقت رواجا في أرجاء النخبة المثقفة والعامة، حتى صار السوق شريكا في تلك النقاشات وفق ما يتضح من آراء وطرح الجاحظ مثلا، وصار الناس بين مشكك ومؤيد ومتوقف ومحتار وهكذا دواليك. ولم يكن أمام الخليفة العباسي هارون الرشيد في وقته ليوقف هذا التأرجح في مجتمعه سوى أن يفسح المجال لعلماء الكلام المسلمين الذين عرفوا باسم «المعتزلة» ليدخلوا الساحة ويتولوا تنظيمها وقيادة النقاش بها حفاظا على وحدة الأمة المسلمة، وتصديا لمختلف الأفكار التي أخذت تشتت وحدة أبنائها.

في تلك الأثناء ظهرت فتنة خلق القرآن التي صارت عقدة بعد ذلك بين المسلمين، وكان منشأها مقالة قالها الراهب يوحنا الدمشقي في كتابه مدللا على أن القرآن ينص على بنوة سيدنا عيسى لله، من خلال استدلاله بالآية التي تنص على أن عيسى هو كلمة الله ألقاها إلى مريم، والكلام جزء من الذات بزعمه، إذا فعيسى ابن الله باستدلاله.

كان ذلك أحد ملامح النقاش في حينه الذي نقضه المعتزلة بقولهم إن الكلام ليس جزءا من الذات وإنما هو مخلوق، وبالتالي فالقرآن الذي هو كلام الله محدث مخلوق، على أن ذلك قد كان مدعاة لإثارة الخلاف كما أشرت بين المسلمين أنفسهم في الفتنة الشهيرة التي عرفت بفتنة خلق القرآن.

ما أردت أن أشير إليه هو أن ما نعيشه حاليا من جدال متفلت منثور عبر وسائط التواصل المجتمعي، ويقوده عوام هنا وهناك ظنوا أنهم عارفون عالمون لمجرد قراءتهم لكتاب هنا وهناك، قد سبق وأن عاشه المسلمون على عهد الرشيد ثم خلفائه من بعده، والفرق أن السلطة في حينه استعانت بمدرسة أهل الكلام لمواجهة مختلف الأفكار التي واجهتها، وأبلى علماء الكلام بلاء حسنا أثمر عن ظهور هذا الكم الوفير من المعارف العقلية التي لم نكتشف منها سوى النزر اليسير، ولم نعرف منها سوى عدد قليل من الكتب المحققة، ولا يزال الكثرة الكاثرة منها مخطوطا حبيس الورق وأرشيف المكتبات العتيقة.

ما أحوجنا اليوم إلى اهتمام الجامعات ومراكز الأبحاث بتحقيق المخطوطات الفكرية التراثية التي ألفها علماء الكلام وقادة المدرسة العقلية في حضارتنا العربية المسلمة، وكم نحن بحاجة إلى فتح المجال لعلم الكلام الجديد ليتصدر الساحة ويقول كلمته الفصل، التي ستوقف كل ما نعيشه من عبث قولي عبر وسائط التواصل المجتمعي المتنوعة.

هو رجاء أخال أن الراحل محمد بابا كان ينشده، فرحمه الله حاضرا وغائبا.

zash113@