أطباء تحت القصف

الثلاثاء - 16 أغسطس 2016

Tue - 16 Aug 2016

(أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي، وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلا وسعي في استنقاذها من الموت والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عوراتهم، وأكتم سرّهم. وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلا رعايتي الطبية للقريب والبعيد، الصالح والطالح، الصديق والعدو....... والله على ما أقول شهيد) «اقتباس من قسم الأطباء».



الحصار والدمار اللذان تتعرض لهما حلب الشهباء لا مثيل لهما في عصرنا الحالي، وإذا أردنا الحديث بعيدا عن الحالة السياسية الراهنة، والابتعاد قليلا عن الخوض في أوجه الخلاف والنزاع الإقليمي والعالمي حول مسببات الصراع وطرق الحل، فإن الجانب الإنساني والصحي الذي وصل إليه حال المدنيين لهو وصمة عار في جبين الإنسانية، كما أن حالة الانقسام المستمرة منذ خمسة أعوام (والتي قد تستمر أعواما أخرى) لا ينبغي أن تقف عائقا أمام أي جهود إنسانية أو إغاثية. ولأن القضية السورية تحتاج إلى الكثير من التفاصيل لوضعها في سياق كامل لإبراز الفجوة الهائلة بين طرفين، أو بمعنى أصح عالمين، فإن المهم لنا الآن هو الحالة الإنسانية التي أفرزها هذا الصراع، ولم يعد ممكنا الانعزال أو الابتعاد عن القيام بمسؤولياتنا الإنسانية تجاه هذا الشعب العربي الذي طالت معاناته.



وفي الوقت الذي تكفلت جميع المعاهدات والمواثيق الدولية بسلامة الهيئات الطبية والإغاثية أثناء الحروب والنزاعات، فإن طيران النظام السوري وحليفه الروسي يستهدفان وبصورة مباشرة المستشفيات والمراكز الإغاثية والإسعافية في مدينة حلب التي تعاني من شح شديد في المستلزمات الطبية والأدوية بالإضافة إلى نقص في الكوادر الطبية التي أصبحت مستهدفة وبشكل واضح للعيان، تتسابق على نقله محطات التلفزة في العالم. حيث تشير إحصاءات تلك المنظمات إلى أنه في الأسبوع الأخير من شهر يوليو الماضي تم استهداف ستة مستشفيات في حلب وحدها، وأن مجموع ما تم استهدافه في كامل الشهر في جميع أنحاء سوريا وصل إلى ٤٣ مستشفى ومركزا صحيا، حتى أصبح المدنيون يشعرون بالهلع والذعر بعد إصابتهم وعند نقلهم للمستشفيات خشية استهدافهم مرة أخرى.



كما أن الأرقام تشير إلى أن عدد الغارات التي قصفت بالفعل المراكز الطبية قد بلغت 373 غارة استهدفت 265 مركزا، أي أن بعضها قد تكرر قصفه بعد أن تم إعادة تشغيله بواسطة تلك الكوادر المستهدفة التي نهضت مجددا من تحت الردم والأنقاض. هذه الغارات المخزية استهدفت الطواقم الطبية الباسلة التي قررت البقاء في وطنها والوفاء بقسمها العظيم، لقد قررت (أن تصون حياة الإنسان وتنقذه من الموت والمرض والألم)، فعلت ذلك بما تملكه من علم وخبرة وبما تحصلت عليه من أدوية ومستلزمات طبية من تلك المنظمات، وتجدر الإشارة هنا إلى أن أكثر من 750 شخصا من الكوادر الطبية من أطباء وممرضين وفنيين، قدموا أرواحهم ودماءهم الزكية لوطنهم. وعندما ساءت الأحوال وفقدت العديد من تلك المراكز الطبية اضطر غالبية تلك الكوادر إلى اللجوء إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، في حين فضل القلة البقاء والصمود لحماية وإنقاذ شعبهم المحاصر والذي يتعرض للقصف اليومي. لقد أفرزت الشهور القليلة الماضية أبطالا حقيقيين أصبحوا رمزا لأهلهم ولأرضهم يعملون الساعات المتواصلة تحت القصف، وبالرغم من الخذلان الكبير الذي ينتاب هؤلاء الأبطال إلا أن الدعم القليل من تلك المنظمات العالمية- يبقى عونا رغم صعوبة وتأخر وصوله- منحهم القوة والأمل لمتابعة عملهم الطبي الميداني.



أما حين انتظر الناس في حلب على وجه الخصوص أن نقوم نحن أبناء جلدتهم العرب بالاستجابة لنداءاتهم واستغاثتاهم المتكررة، ليس بالسلاح بل إغاثتهم بالدواء والغذاء بعد أن ملأنا الفضاء ضجيجا في السنوات الأولى للثورة، نجد أنفسنا عاجزين حتى عن وقف هذا الاستهداف المتعمد لتلك المستشفيات ودور الإغاثة، بل وحتى إدانته بلهجة قوية وصارمة تجبر هؤلاء الطيارين الجبناء على الكف عن هذا العدوان المخزي والغاشم. ولأن الرأي العام العربي ظل مشغولا لأعوام بالحالة السياسية والعسكرية، فإن الحالة الإنسانية والطبية التي عانت منها حلب على وجه الخصوص كانت بعيدة تماما عن أي نشاط عربي شعبي ومدني منظم، بل إن من قام بذلك، وقد يكون مفاجأة للكثير، هي الأمم المتحدة نفسها التي طالما انتقدنا أداءها ودورها في التوصل لحل سلمي ينهي سنوات الهدر للدم العربي، بعد ذلك وحين تناقلت وكالات الأنباء العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي المأساة الإنسانية، قامت منظمات صحية وإغاثية عالمية بمسؤولياتها الإنسانية وتطوع العديد من الكوادر الصحية والمهتمين بالنشاط الإغاثي في سوريا منذ بداية الثورة بأعمال عظيمة وجدت الثناء والتقدير لدى هؤلاء المنكوبين وهذا هو ما يفسر قدرة الأطباء والمسعفين السوريين في حلب على الصمود حتى هذه اللحظة.



وبعيدا عن أسماء تلك المنظمات ودولها كيلا يتم تسييس أو (تدعيش) تلك الجهود فإن العديد من تلك الحملات ترأسها أطباء أجانب لم يقسم أحد منهم على قسمنا العظيم بل نفذوا ما جاء به من تعهدات بكل شهامة ونبل، لقد تنقلت تلك المجموعات بين عمان وبيروت وغازي عنتاب وإسطنبول لتذليل الصعاب من أجل عبور تلك المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة بل إن بعضهم ذهب بنفسه إلى تلك المناطق المحاصرة وعاش تلك الظروف البالغة الخطورة ثم عاد للعالم ليروي ما رآه من مآس، مما ساعد على الدفع بالمزيد من الجهود لجلب المزيد من المساعدات.

من هنا نجد أنفسنا نحن الأطباء العرب والذين تأثرنا بالغ الأثر بمشاهد القصف والدمار الحية وما رافقها من إصابات بليغة وتشوهات كبيرة أصابت الإنسان العربي المسلم في سوريا، بالإضافة إلى مشاهد الذعر والهلع التي تصيب الأطفال والنساء الثكالى، فقد شعرنا بالكثير من الخيبة والإحباط يصل إلى درجة الشعور بالحنث بقسمنا العظيم، كما أن الحالة السياسية والأمنية التي أفرزها هذا الصراع أصابتنا بالشلل التام، وبالتالي أدركنا ومنذ وقت مبكر بوجود الكثير من التحفظات على أي مبادرة ذات دلالة ومعنى، شعرنا أيضا بحقيقة تلك القيود التي كبلتنا عن القيام بواجبنا الإنساني، وإذا استبعدنا نظرية المؤامرة التي يحلو للبعض ترديدها فإن السنوات الخمس الماضية لم تأت بالجديد، وهكذا استمرت التحفظات بل أصبحت من المسلمات، التي بات أدناها أن نتهم (بالدعشنة).