شاهر النهاري

الطرفة مخلوق يتحور، يتطور ويستنسخ

الاثنين - 06 يونيو 2022

Mon - 06 Jun 2022

هل فكرت يوما أن تؤلف طرفة؟ ليس أصعب على الإنسان من أن يفعل ذلك مبتدئا بمجرد فكر يبحث عن متعة الابتكار والإضحاك.

الطرفة شبه مخلوق حي يخرج من جوف الحدث، ويكون حظه أن يولد بين يدي شخص ذكي، خفيف دم، له القدرة على التقاط الحدث، وإعادة ترتيب مراحله، وصياغته بلغة سلسة وتتابع مشوق، لا يفضح عمق الحدث ونتيجته قبل المرور على مراحل البناء اللفظي والفكري الذي يتقبله الأغلبية العظمى ممن يسمعونه.

البدء من الصفر مستحيل، فلا بد من كلمة سُمعت في السابق، أو مفارقة سبق واستخدمت، ولا بد من مساعدة ينالها من الذاكرة.

الطرفة لا تموت، ولكنها تستنسخ في حيوات متباعدة المكان والزمان والحدث، وباحتضان محلي، يساعد على إعادة صياغتها حسب الطباع والعادات واللهجات والثقافات الإنسانية المستجدة.

وتحصل الزيادات والدمج، والتحديث بين نسخة وأخرى، فطرفة قيلت قبل ألف سنة، يتم تحويرها آلاف المرات، وانتقالها مع الركبان من بلد إلى بلد، يمكن أن تسمعها اليوم بيننا، وبتطور اللغة، وخصوصية الحدود والمجتمع، ويمكن أن تسمعها في عدة بلدان، مهما اختلفت الصياغة واللهجة.

الظروف المتشابهة للحدث، والحاجة لتناولها، يجعل الطرفة ذاتها تقال في دولة خليجية بخصوصيتها، وتشتهر في مصر بطريقة الشعب المصري، وتقال في اليمن بعد عجنها بخيالات إنسان اليمن، وتطرق في الجزائر بلغة فرنكوفونية، ويتم ترديدها في الأردن بطريقة ضيقة الخلق.

الطرفة كالقطة لها أرواح متعددة، تقفز بيننا بذيل جديد، كي تنسينا اللبوة الأساس، التي لا يمكن تتبع خيوط زمانها ومكانها القديم، ولكن التجدد يجعلها في كل مرة تبدو بروح جديدة، مبتكرة.

الطرفة تشابه القصة القصيرة جدا، أو العكس، وفي كل نسخة تظل تبحث عن حل ونهاية لم تكن متوقعة، وهذا ما يجعل الفكر يصاب بفجوة فكرية تحوي تناقضا مدهش، وبها صور متقاربة متباعدة، وخيال، وتأنق وتودد في الشرح.

والكثير منا حينما يسمعون طرفة، يتمنون لو أنها قيلت بطريقة معدلة يفضلونها، أو تعودوا عليها، وبترتيب معين يجدونه الأفضل، بينما يلقاها مستمع آخر تقلل من فكاهتها، وتحتاج مفهومه هو، وطريقته في السرد.

كثيرون ممن يمتلكون الموهبة، والطريقة، والصوت، وتوازن الشرح والصمت مبدعون، فنجد الطرفة على ألسنتهم أكثر خفة وتأثيرا، وربما نضحك عليها بقوة، مجددا، مع أننا نعرفها، وسمعناها بقالب آخر.

أغلب الطرف تصور علاقات إنسانية مضروبة المنطق، كما بين الأزواج، وترتقي للشأن السياسي، فيتم انتقاد عمل الحكومات بخلق المفارقة والشبه والفضيحة والضحك.

وغالبا ما تكون الطرفة وسيلة الشعوب للتنفيس عما بأنفسهم، خصوصا مع عدم قدرتهم على النقد المباشر في أحوالهم الداخلية والمعيشية، والسياسية، وعندها تقال الطرفة، والبعض يتلفت لذاك الجدار، وذا الجدار.

التحولات تحدث في نسيج تركيبة الطرفة، فما كان يقال من طرف أثناء مجاعة، يمكن أن يصاغ من أجل التندر بجائحة، ويمكن أن يتم مشاركتها عند تبرير مشاعر مشجعي فريق خاسر، أو عند وعود حكومية لا تتم.

الطرفة وسيلة للترفيه والتنفيس الشعبي، وهي دلالة وجود الذكاء الفطري المجتمعي، وهي وسيلة لجعل الصعب سهلا، ونشر الصبر في الأنفس، وتوهيم الحال مقارنة بحال أكثر ترديا.

الطرفة كانت نادرة، ولكنها اليوم تسيح على مواقع التواصل، لدرجة الإغراق والقرف.

shaheralnahari@