راجح عبدالعزيز الحارثي

دينامية الإعلام السعودي – الحوكمة قبل العقاب (3)

الاحد - 29 مايو 2022

Sun - 29 May 2022

في المقال السابق «دينامية الإعلام السعودي – المخرجات والدور الغائب» تطرقت إلى الإعلام الجديد، وبعض المخاطر والتحديات في المخرجات، وإلى واقع الدور الغائب لوزارة الإعلام وهيئاتها عن المشهد الإعلامي السعودي، والتي منها ظاهرة اختطاف المحتوى الإعلاني السعودي لصالح فئة من «متسلقي الإعلام الجديد (المؤثرين في تطبيقات التواصل الاجتماعي Social Media Influencers)». وكغيري، شاهد المجتمع السعودي الأحداث التي تكشفت تباعا في موضوع واقعة الفتاتين اللتين سافرتا إلى دولة المالديف في رحلة قيل إنها سياحية! ورأينا ما تم تناقله وتداوله من محتوى ومشاهد مسيئة للقيم والأخلاق، وأيضا اشتملت على الإساءة لدولة المالديف في جزئية من ذلك المحتوى المنحط.

حقيقة، لم أتفاجأ من تلك الأحداث والوقائع السيئة، والتي أعتبرها نتيجة حتمية للوضع الراهن، ونتيجة مباشرة كأحد المخرجات لواقع اختطاف المحتوى من تلك الفئات الدخيلة، بل ونتيجة مباشرة للدور الغائب للإعلام السعودي عن المشهد والذي سبق وأن تطرقت إليه في المقال السابق، ومن مخاطر هذا الغياب أنه يسهم في استمرار هذه الحالة من الفوضى في القطاع، وهو ما يؤدي إلى تنامي حالة الامتعاض لدى مختلف فئات المجتمع السعودي، ذلك المجتمع الذي يصبو إلى الحفاظ على الصورة الذهنية التي تمثل هويته وإنسانه بين شتى الشعوب والأمم المختلفة محليا وعالميا، ويحث الخطى نحو تنمية تلك الصورة الذهنية وينافس بها في جميع المحافل المحلية والدولية، وهي تلك الصورة الذهنية التي تجسدها رؤية المملكة 2030 التي يقودها الملهم سيدي سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- تحت رعاية مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله-، حيث أن سموه يحرص دائما على استحضار تلك الصورة الذهنية في جميع لقاءاته الإعلامية، وخطابه الدائم الذي يترجم المعاني الحقيقية والسامية للمواطنة.

وهي تلك الصورة التي لم تأل الدولة بجهودها وإمكانياتها وقدراتها منذ أيام المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- في سبيل تنميتها وإعلاء شأنها.

عندما ننظر إلى خطوات العهد الجديد في عمر الدولة السعودية الحالي، نجد أن الدولة أعزها الله شرعت في إعادة هيكلة جميع المنظومات التي لامستها برامج الرؤية، بما في ذلك مختلف القطاعات القائمة والمستحدثة، من خلال رسم استراتيجية النهوض والبناء عبر إرساء مفاهيم الحوكمة القائمة على خلق آليات ونظم وقوانين رقابية تشكل وتؤطر البيئة الشاملة للقطاع المستهدف بحيث تؤثر بشكل مباشر في المخرجات، وتمكن لإرساء معايير وضوابط تتفق مع أهداف وبرامج الرؤية.

وبأخذ قرار «الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع» في الحادثة الآنفة الذكر بعين الاعتبار، والتي نصت على إيقاع غرامات مالية على الفتاتين نظير «الإساءة إلى إحدى الدول»، حسب ما ورد في البيان حول الواقعة، أجد أني مضطر للاستعجاب من ذلك القرار، حيث إنه أخذ بجزئية جانبية من القضية وتجاهل صلب الموضوع والحال.

ولا أود الإسهاب في هذه النقطة حتى لا أكون ممن يبشر بالنقد غير البناء، أو ممن يمارس المفاهيم السلبية لـ «جلد الذات»، بل أود أن أنتهز هذه الفرصة للإسهام في رفع سقف الوعي حول الفجوات والتحديات الراهنة.

وبالنظر إلى العقوبة التي فرضت من قبل وزارة الإعلام، أجد أنها عقوبة لا تقدم حلا ناجعا، أو عقابا رادعا، حيث إن تلك القيمة مقارنة بالمداخيل الإعلانية، ربما لا تتجاوز قيمة عدة إعلانات، كما أنها لا تمنع تكرار الأحداث مستقبلا، والتاريخ مليء بوقائع مشابهة تم في بعضها استدعاء للمسيئين من قبل بعض الأجهزة الأمنية.

بل إن تلك العقوبة قوبلت برد فعل متمثل في استعطاف المتابعين الذين عبروا عن امتعاضهم من تلك الأفعال المسيئة، ولقد صاحب ذلك الاستعطاف توجه هزلي غير عابئ بتبعات الإساءات وحالة الامتعاض الشعبي التي تلت، خصوصا وأن العقوبة تطرقت فقط لـ «الإساءة إلى إحدى الدول» وأغفلت الجانب المهم والذي يتمثل في صيانة الذوق العام والحفاظ على الصورة الذهنية والهوية الوطنية وما تحويه من قيم وأخلاق، علما أن كل ذلك نعزوه لغياب مبادئ ومفاهيم وسياسات الحوكمة.

وفي هذه القضية تحديدا، أعتقد أن دور وزارة الإعلام يجب أن يسخر نحو الحوكمة أكثر من أنها تفرض عقوبات في قطاع يعاني من الفراغ التنظيمي، وحالة من الغياب المتواصل عن المشهد المتنامي والمتغير بشكل سريع.

وعلى وجه الخصوص عن طريق الآتي:

أولا: يجب تقنين دور مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي، والإعلام الجديد، بحيث تكون «مهنة» لها ضوابط، ومؤهلات، وأن تخضع للمفاهيم المهنية التي تعتمد على إصدار رخص ممارسة النشاط.

على أن تجدد بشكل سنوي، وأن يكون هناك لجان مختصة تقوم بتقييم الأداء للمحتوى الذي يتم إنتاجه عبر تلك التراخيص.

وعلى أن يكون هناك رسوم سنوية تتناسب مع قيمة الفرص التي يمثلها ذلك القطاع في القيم المالية التي يمكن جنيها من ممارسة العمل فيه.

ويجب أن يتم ربط تلك المهن والتراخيص بوزارة التجارة من خلال سجلات تجارية متخصصة.

ثانيا: وضع معايير مهنية، بحيث لا تسمح للمتسلقين والوصوليين والانتهازيين من ممارسة الإعلان المتخصص بعيدا عن تخصصه العلمي، وبعيدا عن تخصص الترخيص.. على سبيل المثال، متخصصي التجميل لهم الحق في تسويق منتجات التجميل فقط، على أن يراعوا المصداقية في الترويج من خلال مبادئ المتطلبات المعتمدة «approved claims» ومفاهيم إخلاء المسؤولية القانونية والمرتبطة بطبيعة المنتجات ومفاهيم الممارسات الصناعية المتخصصة «Industry disclaimers and organizational requirements».

ثالثا: وضع معايير أخلاقية وضوابط مهنية، تتفق مع القيم العامة والأخلاقيات المشمولة والمعتمدة بالأنظمة والقوانين المعمول بها في الدولة، والتي تنظم حياة المجتمع وأيضا تمهد لخلق الأوعية القانونية التي تسهم في نمو القطاع بشكل إيجابي.

رابعا: إنشاء منصة رقمية تحت إشراف وزارة الإعلام، يتم التسجيل بها وتكون القاعدة الرئيسة لجميع أولئك ممارسي المهن التي تستوجب الحصول على التراخيص.. وإجبار الشركات التجارية التعامل مع المرخص لهم من خلالها، وربطها بوزارة التجارة، لإثبات الدخل والضرائب والزكاة وغيرها من القواعد التنظيمية.

وعلى سبيل المثال، ما قامت به وزارة الإسكان من استحداث لمنصة «إيجار» وربط تلك المفاهيم بممارسة خدمات الوساطة العقارية المرخصة.

خامسا: تقديم برامج تدريبية متخصصة لمن تنطبق عليهم الشروط، ممن اجتازوا متطلبات الرخص المهنية والسجلات التخصصية، وتشمل تلك البرامج التدريبية المهارات التسويقية، والعلوم المتخصصة في شتى القطاعات المختلفة في المجالات الإعلامية الرقمية.

في ختام هذا المقال، أود التأكيد على أننا نحتاج إلى خلق ثقافة إعلامية، ونشر معرفة تقوم على أسس تدعم تواجدنا الرقمي، ولا تحد من فرص تطورنا وتقدمنا من خلاله، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكثيرين يجهلون الطرق المثلى لاستيعاب التطورات التي تطرأ في العالم الرقمي، وبالتالي لا يستطيعون مواكبة تلك التطورات كما يجب.

@AlHarithi_Rajeh